استدامة المسؤولية الاجتماعية

حاتم الطائي

 

القطاع الخاص مطالب بمضاعفة مشروعات المسؤولية الاجتماعية لدعم الدولة في مسيرة التنمية

تقديم التسهيلات للشركات الرائدة في المسؤولية الاجتماعية يشجع الآخرين على زيادة الاستثمار الاجتماعي

نقترح وضع تصورات مرحلية لمشاريع المسؤولية الاجتماعية وفق الأولويات الوطنية

 

تحدثتُ في مقالة الأسبوع الماضي عن قضية التنمية وآليات استدامتها، وتطرقتُ إلى مستوى التقدم الذي أحرزته الحكومة الرشيدة في سبيل تحقيق أهداف التنمية المُستدامة، ولذا أعرجُ اليوم على قضية ذات ارتباط وثيق بالتنمية واستدامتها، ألا وهي المسؤولية الاجتماعية للشركات، ودورها في رفد جهود التنمية، إضافة إلى تسليط الضوء على وسائل استدامة هذه المسؤولية الاجتماعية.

وانطلاقاً من إيماننا الشديد بأهمية المسؤولية الاجتماعية ودورها في خدمة المُجتمع، يتوازى هذا الطرح مع ما نعتزم التأكيد عليه في أعمال ملتقى صلالة للمسؤولية الاجتماعية، الذي يُعقد لأوَّل مرة في أرض الأصالة، صباح اليوم الأحد، بمُشاركة وطنية وخليجية واسعة، وتحت عنوان "الاستثمار المجتمعي.. المسؤولية المستدامة".

والمسؤولية الاجتماعية التي نعنيها تتعلق بدور ومسؤوليات القطاع الخاص في عملية التنمية الشاملة، وجهود الاستثمار الاجتماعي التي تقوم بها الشركات، وخاصة الكبرى منها والعاملة في أكثر من قطاع، إذ إنَّ دور هذه الشركات يتعدى تنفيذ مشروعات تنموية لصالح الحكومة، أو الاستثمار في عدد من القطاعات، ليشمل ضخ استثمارات اجتماعية تعود بالنفع على المُجتمعات المحلية، بما يدعم مساعي التنمية جنباً إلى جنب مع الجهود الحكومية، والتي ما فتأت تتواصل منذ فجر النهضة المُباركة وحتى يومنا هذا.. غير أنه في ظل ما يستجد من حولنا من مُتغيرات اقتصادية وتحولات في منظومة التنمية الشاملة وجهود استدامتها، وبما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة الصادرة عن الأمم المتحدة، فإنَّ الاستثمار الاجتماعي بات ركنا أصيلاً من أركان التنمية، بل إننا يُمكن أن نقول إنه حجر الزاوية في عملية التنمية الشاملة لدعم النمو الاقتصادي المستدام.

والحكومة الرشيدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المُعظم- حفظه الله ورعاه- تبذل أقصى الطاقات من أجل تحقيق النمو الاقتصادي على الرغم من التحديات الجسيمة التي تلاحقنا من كل صوب.. فالتذبذب الشديد في أسعار النفط، والتوترات التجارية حول العالم في ظل حروب تجارية وصعود عنيف للشعبوية المناهضة لقيم العولمة والانفتاح على الآخر، والاضطرابات الجيواستراتيجية، فضلاً عن ركود اقتصادي عالمي يلوح في الأفق... كلها عوامل قد تسبب عرقلةً لجهود التنمية، ما لم تتضافر هذه الجهود وتشكل حصنًا للنمو الاقتصادي المنشود، خاصة وأننا على بعد خطوات قليلة من تطبيق الرؤية المُستقبلية "عمان 2040".

وتضافر الجهود يستلزم مضاعفة إسهامات القطاع الخاص في عملية التنمية، عبر ضخ المزيد من الاستثمارات الاجتماعية والسعي لضمان استدامتها، حتى لا تبدو وكأنها أموال خيرية أو تبرعات تحقق الفائدة لفترة وجيزة، دون ترك أثر حقيقي في المجتمع، أو تعزيز الاستدامة، مع التركيز على مسألة الاستثمارات القطاعية، تحت مظلة جهة مركزية في كل مُحافظة تقوم بتنظيم مشروعات المسؤولية الاجتماعية حسب الاحتياجات، فما تحتاجه ولاية ما من مشروعات مياه أو خدمات ترفيهية، ربما لا تحتاجه ولاية أخرى.

وحتى يتحقق مبدأ استدامة التنمية، يجب أن تستند المشروعات والاستثمارات الاجتماعية على 3 مرتكزات؛ الأول ضمان العائد الاقتصادي المجدي من المشاريع؛ كي تتواصل الدورة الاقتصادية دون تعرضها لانتكاسات أو ركود. أما المرتكز الثاني فيتمثل في عدم إضرار هذه المشاريع بالتوازن البيئي بل الإسهام في صون الطبيعة وحماية البيئة. في حين إن المرتكز الثالث، يتجلى في دعم المشروع للتنمية في المجتمعات المحلية.

ومن هذا المنطلق نرى أنَّ الأبعاد التنموية للمسؤولية الاجتماعية يجب أن تتجاوز حدود تنفيذ مشروعات إما أنها تتخذ صفة الموسمية أو المؤقتة أو حتى أنها لا تخدم عموم المُجتمع المحلي، ولذا نُريد للمسؤولية الاجتماعية أن تنتقل إلى آفاق التنمية المستدامة، وأن تسهم في إنشاء مشروعات تنموية يمتد أثرها إلى أجيال مستقبلية. فما الذي يمنع القطاع الخاص من تمويل مشروع- من مخصصات الاستثمار الاجتماعي- لبناء طريق جديدة تربط بين قريتين أو مدينتين، أو أن يعمل القطاع الخاص على تمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتوفير فرص العمل للشباب، دون الاكتفاء بتقديم التدريب والتأهيل وهما أمران في غاية الأهمية. ودعوتنا هذه ليست تقليلاً من شأن الجهود القائمة، إلا أنها تظل مؤقتة وغير مستدامة، وهذا لا يحقق الهدف الجديد الذي نسعى من أجله: الاستدامة.

ذكرتُ في أكثر من مناسبة أن أكبر تحدٍ يواجه التنمية في بلادنا هو تحدي الاستدامة؛ إذ إنَّ استمرار المنافع التنموية يجب أن يتضمن مسألة صون حقوق الأجيال القادمة في التنمية، والاستفادة من خيرات الوطن التي نستهلكها في الوقت الحاضر، ومن ثم الحفاظ على المنجزات لعقود طويلة، وحماية الثروات الوطنية من أن تُستنفد في سنوات قليلة.

لكن ثمَّة إشكاليات تواجه الاستدامة في مشروعات المسؤولية الاجتماعية، منها قضية الأولويات، وهذه نرى أنها تقع في خندق واحد مع الظروف والمُعطيات على الأرض، فأولويات التنمية تتباين من ولاية لأخرى، لكن لنتفق أن أولوياتنا الآن تتمثل في دفع عجلة الاقتصاد وتوظيف الشباب بالمقام الأول، وهذا يتأتى عبر خطوات عديدة، منها التوسع في المشاريع القائمة، لاسيما الصناعية منها كثيفة العمالة، وأيضًا تمويل ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز الشباب على افتتاح مشاريعهم الخاصة، لتشجيع التوظيف الذاتي؛ فالدعم المالي يمثل أحد أوجه الاستثمار الاجتماعي في قنواته الحقيقية، ولذلك يتعين على المصارف ومؤسسات التمويل أن تقوم بمسؤوليتها الاجتماعية من خلال الإسهام في تمويل مختلف المشاريع بفائدة منخفضة، بل يمكن أن يتم التمويل بفائدة صفرية، وفق ضوابط وضمانات تضعها هذه المؤسسات، كجزء من استثماراتها المجتمعية، وهذا الدعم المالي المأمول يمكن تطبيقه وفق توجهات استراتيجية تتم صياغتها بدقة، لضمان تحقيق أعلى قدر من المنافع الاقتصادية.

وهذه المنافع ستتماس مع جوانب أخرى، فتطبيقات المسؤولية الاجتماعية ستعمل على تعزيز القيمة المحلية المضافة لأنشطة الشركات؛ فالاستثمار الاجتماعي يُحقق الكثير من العوائد على المؤسسة والمجتمع سواءً بسواء، لذلك نجد أنَّ مشاريع القيمة المحلية المضافة تتساوى في أهميتها مع مشاريع المسؤولية الاجتماعية، بل إن كلاهما يمكن أن يُشكلا دعمًا كبيرًا للتنمية الاقتصادية المُستدامة في المجتمع، فإذا كانت القيمة المحلية المضافة تسعى إلى توطين الخدمات المقدمة للمشاريع الكبرى والاستثمارات الأجنبية، وتوفير فرص العمل للمواطنين، وإتاحة المجال أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للاستفادة من هذه الاستثمارات، فإنَّ مشاريع المسؤولية الاجتماعية يجب أن تستهدف كذلك دعم النمو وخلق فرص عمل مُستدامة. ومن ثم تتشكل لدينا قوة دافعة نحو تنمية اقتصادية مستدامة تقوم في أساسها على العمل الجاد والمشروعات الحيوية التي توفر الوظائف وتضمن استمرار دوران عجلة الاقتصاد.

 

ومن الفوائد التي تحققها المسؤولية الاجتماعية أيضًا أنها تسهم في توظيف الشباب، من خلال خلق فرص عمل نوعية لهم، وخاصة فئة رواد الأعمال ومشروعات المرأة المنزلية، ولذلك نقترح قيام مختلف مؤسسات الدولة بتقديم تسهيلات للشركات الأكثر أداءً لأنشطة المسؤولية الاجتماعية، والعمل على إعداد مؤشر للمسؤولية الاجتماعية والشراكة لقياس مستوى التقدم المُحرز في هذه المشاريع والوقوف على التحديات والبحث في سُبل تذليلها.

مقترحٌ آخر أطرحه للنقاش، يتمحور حول إلزام الشركات الكبرى التي تزيد أرباحها عن 5 ملايين ريال سنوياً، بتخصيص نسبة ثابتة من هذه الأرباح لمشروعات المسؤولية الاجتماعية.

ويبقى القول.. إنَّ تحقيق الاستدامة في شتى مناحي الحياة يستلزم تضافر جميع الجهود، وعندما نتحدث عن التنمية واستدامتها فإنَّ الأمر يتطلب مضاعفة هذه الجهود، فالتنمية مُكلفة والحفاظ عليها أعلى كلفة، وهنا يأتي دور القطاع الخاص في دعم جهود التنمية والمُحافظة عليها عبر مشروعات المسؤولية الاجتماعية المُخطط لها بعناية وفق تصورات مرحلية ترتكز على أولويات وطنية، تكفل تحقيق التطلعات وتلبية الطموحات.