ترسانات السلاح العربية سيفٌ لا يضرب

 

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

لم يعرف الفارس العربي قديما الاعتذار عن ترك سيفه، فهذا كان ضربًا من المحال، ودونه زهق النفوس وفراق الأرواح، إنما كان يعتذر عن نبوة السيف التي لا يلام عليها ، فيقول:

لا تلم كفي إذا السيف نبا   

صح مني العزم والدهر أبى

//

وكذلك جعلت القبيلة السيف رمزا لها حتى وإن نبا، فقال شاعرهم:

لسيف بني عبس وقد ضربوا به    

فنبا في يد الورقاء عن رأس خالد

وبنو عبس هم القبيلة المعروفة، والورقاء هو صاحب الثأر الذي نبا السيف في يده، وخالد هو المضروب الذي نجا من ضربة السيف..

وقتل الشاعر المتنبي بسيف وشعره، الذين طالما تغنى بهما، ففر من أعدائه وذكَّرَه غلامه بقوله فرجع فقاتل حتى قتل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ثم قطع شاعرنا أبوتمام الشك باليقين حين فرق بين وقع السيف ووقع الكتب في الحد بين الجد واللعب، حين فتح المعتصم عمورية استجابة لنجدة امرأة عربية مسلمة قالت: (وامعتصماه)،  فقال:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

//

بيض الصفائح لا سود الصحائف

 في متونهن جلاء الشك والريب

وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: كسر في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ولم تثبت معي إلا صفيحة (سيف) يمانية.. ولم تزل الصفائح اليمانية صامدة إلى الآن، تنهال عليها الضربات من الداخل والخارج وهي تذب عن العروبة والعرب.

ولم ينس الشاعر العربي عنترة وهو يتقلب في غبار الهيجا تحت ظلال السيوف وطعان الرماح أن يذكر أحب شيء إليه (ثغر محبوبته) حين لمعت بارقة السيوف كبارق ثغرها فهم بتقبيل السيوف، فقال:

فوددت تقبيل السيوف لأنها

 لمعت كبارق ثغرك المتبسم

واستدركت الخنساء على حسان حين افتخر بالأسياف وهو ينشد شعرا بين يدي النابغة، فقال:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى   

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

 

فقالت: قلت الأسياف وهي ما دون العشرة ولو قلت السيوف لكان أفضل، وقلت يقطرن ولو قلت يسلن لكان أفضل، وقلت من نجدة ولو قلت من نجدات لكان أفضل، وقلت دما ولو قلت دماء لكان أفضل؛ فلم ترض المرأة العربية أن تكون لنا أسياف قليلة أو نجدة واحدة.

ثم تحول السيف إلى بندقية، وتحول العرب من أصحاب حضارة سادت الأرض إلى مليشيات وعصابات تدربهم يد الإنجليز والفرنسيين، يحملون السلاح على الخلافة العثمانية يقودهم (لورانس العرب) الدعي الذي زرعته المخابرات البريطانية في الصحراء العربية سنين عديدة، يقود الثورة ويمهد لاتفاقية (سايكس بيكو) وتقسيم الخلافة العثمانية بين انجلترا وفرنسا، وحمل العرب السلاح وتحولوا لعصابات تقطع الطرق، وتنهب القوافل، وتدمر خطوط السكك الحديدية، ثم سقطت الخلافة وسقط معها العرب ولم يجنوا من إرثها ما كانوا يمنون من الحكم الذاتي، ولكن التقسيم ثم الاحتلال، ثم سكتت هذه البنادق وسكنت الكتب كما قال نزار قباني وسقطت معها فلسطين، ثم بعدها الضفة وغزة وسيناء والجولان، ونعى الشاعر هذه البنادق وهذا التخاذل فقال :

دمشق يا كنز أحلامي ومروحتى

 أشكو العروبة أم أشكو لك العربا

//

أدمت سياط حزيران ظهورهمو

فقبلوها وباسوا كف من ضربا

//

وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا

متى البنادق كانت تسكن الكتبا

 

وما لبثت هذه البنادق والسيوف أن تحولت إلى خشب، حتى راح الشاعر نفسه يستلهم التاريخ ويستنهض سيفا منه أصيلا بدلا من هذه السيوف الخشبية الكاذبة المخجلة، ويستثير النخوة العربية في نفوس أصحابها لعل أن يكون لها بقايا في النفوس كامنة، فقال:

وقبر خالد في حمص نلامسه

 فيرجف القبر من زواره غضبا

//

يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره

فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا

 

كما راح يعتذر لحبيبته العربية عن عجزه، وضعفه وسيفه الخشبي الذي لم يعد يشبه سيف عنترة ولا منعته ولا سرعة نجدته:

ذات المفكرة الصغيرة اعذري

 ماعاد ماردك القديم بمارد

//

أشعاري الأولى أنا أحرقتها

ورميت كل مزاهري ومواقدي

//

سيفي أنا خشب فلا تتعجبي

إن لم يضمك يا جميلة ساعدي

 

ثم استعيض عن السيف الذي كان رمزا للعزة والنجدة والنخوة، فأصبح للرقص العربي، وتناولت السيف أياد غير عربية فرقصت به طربا كما فعل جورج بوش الابن والأب وترامب وغيرهم، وتمايلت أمامهم الراقصات وغنتهم القيان، وعلى خلفية هذا الطرب قصفت غزة (أطفالها ومساكنها ونساؤها) بالقنابل العنقودية ودمشق ولبنان وبغداد، وشربت الأنخاب تبركا بهذا النصر وتصافحت الأيدي (تقطر دما) ثم تبودلت الأحضان والأعناق احتفاء بهذا النصر العجيب.

ثم رجع ترامب ومن قبله تنوء أعناقهم بالذهب والماس والجواهر التي تقلدوها من حلفاءهم وأصدقائهم العرب، كما رجعوا كذلك تنوء مفاتيح خزائنهم بالعصبة أولي القوة من أصدقائهم العرب، وقد أبرموا أكبر صفقات السلاح في العالم التي ضاقت بها مخازننا، وحملت جسور الطائرات الأموال من الشرق إلى الغرب، كما حملت جسور السفن النفط العربي من الشرق إلى الغرب.. ولا أجد مثلا لهذه الصفقات العربية من السلاح سوى قول أحمد مطر:

فلمن تصقل سيفك يا عباس .. قال: ليوم الشدة .. إذا أصقل سيفك ياعباس ..

 

لم تطلق من هذه الأسلحة رصاصة واحدة أو صاروخا على الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين العربية أو غيرها من الأعداء الاستراتيجيين، إنما وجهت شطرها إلى الداخل العربي، ليُفني العرب بعضهم بعضا، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الآخرين، وتكدست مخازننا بأكبر كمية من السلاح العالمية، لكنها تحتاج إلى جيوش، والجيوش تحتاج إلى رجال شداد، أما الرجال فهم عنها في شغل الآن فاكهون، مشغولون بصفقات أخرى: لشراء اللاعبين الأوربيين والنوادي الأوربية، وحفلات الترفيه التي غابت عنا زمنا ثم عادت إلينا وعدنا إليها، وسباقات الخيل والإبل وإقامة أكبر مائدة في العالم وأكبر شجرة كريسماس وأكبر أبراج في العالم.. أبراج من زجاج وبيوت ومدنٍ من زجاج تسقط مع أول سقطة لصاروخ أو دانة أو غضبة أمريكية أو إيرانية.

وبالتالي فنحن نمتلك السلاح ولا نمتلك الرجال، فلا زلنا نحتاج إلى الحماية الأمريكية ندفع لها نقدا، وندفع لها نفطا، وقد أصبح السيف العربي من خشب والسلاح من خشب والبيوت من زجاج، فهل من يرجع السيف العربي أو يستله من غمده ويعيد إليه ما كان له من عز وعهد فتح به الدنيا وحكم به الأرض ..


 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك