الشاعر السوريّ علاء زريفة:

نحيا خارج التاريخ ولم نتجاوز عاهات الهوية

...
...
...
...

 

حاوره: ناصر أبو عون

 

  • الوسط الثقافيّ مُتخم بالدجل والشللية والأنا الأحادية
  • نعيش حالة حالة إخصاء فكريّ متعمدة لأيّة نزعة تغييرية
  • لا أريد لقلمي أن يكون "تطهيريا" بالمعنى الأرسطويّ
  • أكتب لأزيل آثار الوحل الجمعي الذي أودى بنا إلى هوة سحيقة
  • الحرب خلقت شعر وشعراء أزمة همهم الشهرة لا القلق الوجودي
  • الشعر الحماسي والثوري الذي يتبنى مفاهيم جمعية بشكله البالونيّ مضحك
  • الكتابة حالة تعبير قصوى عن إنسانيتنا، وربما هي (الحياة الوحيدة المعاشة)
  • نحيا خارج التاريخ فكرياً ولم نتجاوز عاهات الهوية المزمنة

*****

س: كثير من النقاد يعتقدون أن الشعر السوري المعاصر وجد انحسارًا في السنوات الأخيرة، ويؤكدون أن «الرواية أخذت حيزًا كبيرًا ومهمًّا " هل تتفق مع هذا الرأي؟

 

ج: أتفق وأختلف معه في آن وذلك لعدة اعتبارات أهمها أولاً:  أننا نحن شعراء اليوم نكاد نكون أبناء الشعر غير معترف بهم ، شعراء ظهروا في ظل نخبة من الشعراء الذين بلغوا ذروة المجد أمثال درويش، و نزار قباني، والشاعر المفكر أدونيس، حتى أن دور النشر تمارس هذا الدور الإقصائي بحجة أن الشعر (غير بَيَّاع).

وثانياً: تأثير الحرب التي خلقت شعر أزمة وشعراء أزمة اتسمت كتاباتهم بالتعويضية والاستسهال همهم الشهرة والأضواء بعيداً عن مسألة القلق الوجودي/ وحالة اللا انتماء التي تعتبر أسُّ الكتابة الشعرية.

وثالثاً: الوسط الثقافي المليء بالدجل والشللية والأنا الأحادية التي لا تريد أن تقبل أحداً فأمام حالة فقر الإبداع و المغايرة - إلا ما رحم ربي - وبعد رحيل الماغوط و ممدوح عدوان الاسمين الكبيرين وسيطرة شريحة من الكتَّاب المؤدلجين أصبحت فسحة الكتابة أقل. نحن اليوم في سورية لا نجرأ على كتابة ما كنا نكتبه قبل عشر سنوات.

أعتقد أننا نعيش أزمة كتابة بشكل عام والشعر يعاني من أزمة على مستوى العالم لاختلاف العصر وسيطرة النمط الاستهلاكي والشكل المعلب للأنسنة.

أما الرواية فلا زالت تحبو وقياسا بما يمكنك قراءته من الأدب العالمي نبدو فحسب كمجترين لأفكار الغرب كوننا نحيا خارج التاريخ فكرياً ولم نقم بتجربتنا الفلسفية، أو نتجاوز عاهات الهوية المزمنة.

لازالت الساحة الثفافية السورية تتجاهل ذكر شاعر كبير مثل سليم بركات وتضع العراقيل النفسية أمام كلمات أدونيس وهنا يكثر الكلام حول حالة إخصاء متعمدة لأي نزعة تغييرية.

***

  1.  س: تؤكد كثير من النصوص المكتوبة لأجيال سورية مختلفة أننا أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري السوري"، كيف يمكننا توصيف هذه الانعطافة؟

 

ج: لا أعتقد أن هناك  تلك الانعطافة لأنها وليدة حركية فكرية في سياق تاريخي يتطور ويجري ويحددها النقاد والمتابعون لحركة الشعر السوري، ولكل شاعر هواجسه الخاصة قد تلتقي وقد تتباعد ولذالك لا أحد يشبه أحداً وإلا لأصبحنا مجرد دُمَى.

نحن نكتب تجاربنا الشخصية ونحاول أن نخلق نوعا من التوازن النفسي في ظل عالم مقلوب كما أقول دائماً.

لا أميل إلى طرح نفسي كمدافع عن قضايا كبرى يبدو أن دولنا العربية خلال عقود فشلت في الحفاظ حتى قدسية معناها، بقدر ما أنشغلُ بأزمة الإنسان اليوم كحالة لا انتماء، نحن أمام إشكاليات أدق وأعمق اليوم، فزمن الشعر الحماسي والثوري، والذي يتبنى مفاهيم جمعية كالأمة، والوطن" بشكله البالوني المنفوخ أصبح مضحكاً وخاليا من الصدق، الإنسان العربي والسوري جزء منه يحتاج أن نكتب عن خيبته، عن جوعه، عن نقمته من المقدسات" التي أكلته لحماً و رمته عظماً".

***

  1.  س: الشعر السوري المعاصر عرف انزياحات مختلفة، بحسب التغيرات الجيوسياسية وتركت الحرب ندوبا على القصيدة السورية.. كيف ترى هذه التغيرات من وجهة نظرك؟ ومن خلال قراءتك للمشهد الثقافي؟

ج: باعتقادي أن الحرب والأزمة كمصطلح تعريفي لها في الداخل السوري أرخَت  بظلها على الساحة الأدبية، وهذا ناتج عن انخراط الكثير من المهتمين بالأدب وخاصة الكتاب بهذه الحروب، وذلك من خلال نشر الكثير من الأعمال وبالأخص الشعر، و بإمكاني أن أرى تلك الأعمال الشعرية ثلاث سياقات:

  1. منها ما يستثمر الحرب ليدعم جهة ما ويشكل بروباغندا له، وبالتالي يشكل عمله تعبوياً.
  2. و ثانية تشكل رِدَّات فعل فردية على حوادث فردية غبير مرتبطة بمسببات واضحة وأساسية مكونة لمجموعة من الأسباب التي أدت لهذه الحرب،  وهذا النوع قد يشكل حالة تشويقية ما، لكنه لن يشكل حالة أدبية تجاوزية.

3- والأخيرة وهي الأصدق الذي يكتب عن الحرب ليعبر عن الحرب بقيمتها الإنسانية والروحية ومسبباتها التي يمكن أن ترتبط بالجشع والاستئثار وغيرها، ويعتبر ذلك صرخة تنتصر للمأساة والخوف والموت الذي تخلفه دون رحمة.

***

  1.  س: النصوص السورية المنشورة تشي بتشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، هل تعتقد أن الحرب أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة؟

 

ج: الكتابة هي حالة تعبير قصوى عن إنسانيتنا، ربما هي (الحياة الوحيدة المعاشة)  كما يقول بروست" فمجال الكتابة في زمن هي أسئلة الوجود والمصير، معنى أن نحيا وأن نموت، مسائل الكنه والرغبة، والجدوى بما نحاوله خلال عمر نقضيه سريعا ونحن نتجاوز عتبات البراءة والنضج، و الشهوات، اللذة و سواها سعيا نحو السعادة كقيمة حية غير مكتملة.

ولأن الشعر يبقى هو البيان الأخير، قياسا على البيان رقم واحد. وآخريته تتأتّى من أنّه آخر حصون الفردية في عالم يسير نحو تشيؤ في كلّ شيء من هذا الفرد وهشاشته ورؤاه ضمن هذا المفهوم أستطيع أن أقول: إن عددا من الأسماء من جيلي استطاعت رغم أنها لم تحصد حيزاً كبيرا من الشهرة أمثال محمد الرفاعي، ومصطفى الحلو مثلاً.

أرى أن الحرب لم تكتفِ بنزع ورقة التوت عن عصر بائد من الأدلجة الفارغة دينياً وسياسياً؛ بل جعلت أدب المرحلة التي سبقتها أي الحرب مخلفاً من مخلفاتها، وجزءاً من ركام الأبينة المتهدمة، والدمار الهائل. 

هنا استشهد بما قاله الكاتب السوري باسم سليمان ((علينا في هذا البلد إعادة اختراع كل شيء بدءاً من النار وصولا للمواطنة)).

***

 

  1.  س: أصدرتَ ديوان "شوكولا" وتعالج موضوع الحب كمقاربة مناهضة للحرب.. ما دلالات الاسم؟ وما الرؤية التي تريد تقديمها للقاريء من خلال هذال المخطوط؟

 

ج: دعني أبدأ أولا من العنوان الذي يعتبر عتبة لقراءة أي نص أدبي شعرا أكان أم نثرا؟، هذا العنوان يبدو غريبا وخارجا عن المألوف نوعا ما، "شوكولا" سواء اعتبرناه كلون من ألوان العبودية والاسترقاق في ظل حقبة استعمارية ليست ببعيدة عنا، والتي لم تستطع قوى هذا الاستعمار (الإسباني وما تلاه) تذويبه،  أوكطعم اللذة بشكلها الحر والفردي المعبر عن ذات حالمة بواقع مختلف مغاير بعيدا أصوات المدافع وأزير الرصاص، و قذائف الهاون ومفخخات الهوية التقسيمية المتشظية طولا وعرضا في بلد دمرته ولا زالت آلة الحرب بكل همجيتها وقصديتها، صارت الحرب في "شوكولا" أدبا وحلم يقظة، و صار الإنسان جزءًا من تموضع ينشد وعيه الخاص خارج هذا الصراع الدموي الرهيب، ولزاما لذالك سيصير الحب بمعناه الفضفاض جزءًا من مخلفاتها - أي الحرب -، الحب في "شوكولا" عودة لوجه متعب محقون بالقهر تكسوه الأتربة، ووحل الطريق الطويل؛ ساعيا نحو وطن واحد ربما يبعث يوما، "شوكولا" يحاور الأنثى، الفكرة التي كانت واقعا مؤلما وعاشقا شغوفا لا يزال ينتظر ويريد الخروج حيا ببقاياه من موت بطيء، هذا الموت بصيغته العاشقة اعتبره ثوريا لأنه يمثل طموح الفرد بمواطنته الحقة، فما عاد يموت المواطن لأنه مذنب، لكنه في حاجة للموت ليؤكد ذاته كمواطن، ومن خلال اختفائه في الموت يولد المواطن كحرية.

***

  1.  س: الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم؛ إذ يقول: «الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولًا وآخرًا من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عمومًا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد».. كيف نجا علاء زريفة من لعنة التشابه؟

 

ج: ((الشعر هو الانشغال عن الانتحار))، كما يقول "تنكراز" الفيلسوف الذي طالب به "كامو"، الفيلسوف الذي يبحث في الانتحار، وحالة الفيلسوف ليست غير حالة الشاعر، وما يختلف هو كيفية أسر الموت/ العدم /التناهي/ لأجل دراسته.. الفلاسفة الذين لم يكتبوا الانتحار كموضوع عاشوها كحياة، كما في حالة "روسو"، و"ديوجين"، و"نيتشه" وغيرهم... هنا تظهر نقطة مهمة، وهي أن الفيلسوف يمكنه أن يطرح أزمة العدم ويتخبط في معالجتها - قشَّة نتشبث بها وسط البحر- بينما الشاعر يسقي الأزمة إلى أن تتفاقم في الجسد والعقل والروح، هو فيلسوف من نوع "زينون الشيسومي".

ما أريد قوله: إن الجميع اليوم يكتب عن الألم والجنس كتعبير عن أزمة  وتعويض وهذا يبدو صحيحا كحالة ولكنها تصبح متشابهة ونمطية، إن لم تمتلك تجاوزيتها وبعدها الاستشرافي الذي يكرس الشاعر ككائن نبويّ.

بالنسبة لي الشعر إضفاء الحياة على الأثر المتردّد في الروح إبّان الخشوع لإيماءة الخيال، وقد شبّه الشعر بالموسيقى، أنّهما يترجمان ما يقوله الإحساس. وهو موجود دائما داخل وعي الشاعر، والقصيدة تُطبخ على نار هادئة في تلك البقعة السوداء من الذات – ذات - الشاعر، بهذا المعنى يصح القول: إن  العلاقة تجاذبية مزدوجة بين الكائن والمكنون الشعري يعززها الشعور، وتحفزها الرغبة في خلق الجديد الأكثر غوصاً في أعماق النفس البشرية المحيرة وهنا يصح قول ميلان كونديرا ((فعل الكتابة يعني للشاعر تحطيم الجدران))؛ لذلك يكون المتحدث عن الواضح، والجلي، والعلني، يبدو لي شاعراً زائفاً". في النهاية كما يقول وديع سعادة: ((يبقى الشاعر وحيداً بين الجمهور)).

***

  1.  س: ما هي ملامح مشروعك الشعري؟ وما هي خططك الثقافية المستقبلية؟

مشروعي الشعري يرتهن لكل ما هو انساني صادق، و متصارع مع كل اشكال الاستبداد الديني المغلق و الغيبي المسيس.

 

ج: لا أريد لقلمي أن يكون "تطهيريا" بالمعنى الأرسطويّ، أو انفعاليا تسجيلاً لمصير مأساوي لبطل تراجيدي؛ بل التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة مما يحرره من أهوائه، ويبث فيه روح التغيير الواعي الذي يعززه الحضور الجمعي لذوات متعددة حرة. وبالنسبة للقادم أعكف حاليا بالتعاون مع دار الدراويش للنشر والترجمة في "بلغاريا" على إصدار ديواني الشعري الثالث بعنوان "شيطان" وأعتبره عملاً خطيراً ومغايراً بالنسبة لي.

***

  1.  س: مَنْ هو علاء زريفة؟ وما هي خطوط سيرتك الذاتية والشعرية

الآخرون لا يرغبون في الإنصات إلى صوتهم الخاص، وإنما إلى صوت آخرأي الجمهور.

 

ج: أنا إنسان بسيط أحاول أن أصرخ فقط، وأعتقد أن الشعراء المكرّسين اليوم أشبه بتماثيل الشمع في متحف للخردوات.

وعلى الرغم من عدم كون الشعر في عالم اليوم التكنولوجي الاستهلاكي السريع حيث يتحول كل شيء فيه بما فيه الإنسان إلى سلعة تُباع وتُرهن وتُشترى ويُضحى بها كرقم في حروب الأسياد والعبيد، إلا أنه يبقى - أي الشعر - طريقا للتعبير عن ذات متمردة على هذا العالم هدفها تحقيق سلامها الداخلي في إطار تجارب شعرية خاصة تحاول أن تلتمس في ظلمة الواقع هذا البصيص في زمن الحداثة المائعة، أو السائلة كما يصفها "زيجمونت باومان".

أنا أكتب للتاريخ، لتعزيز حضور الإنسان في غياب أي قيمة حقيقية للإنسان السوري. أكتب لأزيل آثار هذا الوحل الجمعي الذي أودى بنا إلى هوة سحيقة من الضمور والعبثية والفساد والعمالة مع أعدائنا الحقيقيين. أكتب ضد التنميط والابتذال رافضا كل أشكال التمثُّل لأخلاقيات شائنة يصنعها الطفيليون وأصحاب الرساميل والمكاسب على حساب الضعفاء والفقراء الشهداء، وأنتصر لهؤلاء، وسيثبت الزمن لاحقًا صوابية هذا الخيار الفكري الذي أراه ثوريا ومترجمًا للألم والقهر الذي يعانيه الإنسان العربي السوري حاليًا.

تعليق عبر الفيس بوك