قصة قصيرة:

مملكة الغضب

 

علي السباعي| العراق

 

ليل أيَّار مبهم بعتمة أحرقتها نيران صغيرة تضيء منذ الأزل، مثل شعلات أولمبية موزعة في ميدان واسع، عيناه طائران أبيضان يحلقان اشتياقاً في الفضاء. فجأةً! انقطع التيار الكهربائي عن المدينة. ألقت السماء عباءتها عن رأسها فوق أكتاف الأرض، أصبحت المدينة كبدوية تتشح بالسواد تبكي زوجها الميت، صدح بصوت مسموع كمن يشاهد الجبال كلها تنهار فوق رأسه:

ـ يا إلهي. ما هذا؟ يالهُ من نجمٍ غريبٍ؟!

نجمٌ عملاق بذنب كبير، يجري كفرس شهباء في بيداء السماء، مخلفاً وراءه سحابة ضوء أبيض، عن يساره كان القمر قرصاً أحمر كالدم يتكئ بخدر فوق وسادة مرصعة بالنجوم، شعر بالضياع، تاه في دروب معتمة، في دهاليز العبث، شرعت أسراب غربان القلق تنعب في رأسه أفكاراً مشوشة، وشوش لنفسه قائلاً: ـ ظهور النجم المذّنب يجلب معه الموت.

بقيت عيناه العسليتان تحلقان بجانحين من عسل في ريح تلهث كوحوش تمتد زفراتها بعيداً محركة السكون، فتولد النسمة العذبة تزيح الأسى من النفوس، خطفه صراخ فتاة تطلب النجدة.

رمى جلباب الموت عنه، تصاعد الدم إلى صدغيه، تجاسر ضارباً رجلاً أبيض كالقطن... طويلاً بعينين زرقاوين طويلتين كعيون القطط، كان يراود الفتاة عن نفسها، أكال له لكمات قوية، هرب ذو العيون القططية، فشكرته الفتاة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً بصوت يسقسق كالعصافير:

ـ شكراً لصنيعك هذا... يالك من شهم!

أطلقتْ تنهيدة، جعلت العرق يتفصّد من جبينه بارداً، ثم استطردتْ تقول:

ـ كنت أحسبُ الدنيا قد خَلتْ منها المروءة!

كان كلامها كنبضات موسيقى، تقلّب أوراق الروح، لتخط نوتة الثقة سُلَّمها الموسيقي جعل الليل يطوي دروب السماء الإسفلتية العريضة، لملَمَ الظلام نفسه متكوراً كطفل يضم ساقيه بيديه من شدة البرد، قال لها بصوت متهدِّج:

ـ كنتِ على وهم؟

أجابته بتلقائية:

ـ نعم.

برقتْ عيناها الشهلاوان الكبيرتان بوميض ناري لمعرفتها بخفايا الحياة، سطعت عيناها بنيران مجوسية، قال هامساً: ـ نحنْ مخدوعون!

يشّع النجم المذنّب بتمزيقه الظلام، تتساقط قطع من سماء إسفلتية تتشوه بانغماسها في ضوء ذنبه البراق، صرختْ به بحدة، كلماتها كسمكة قفزت على صفحة النهر بقوة: 

ـ أنتم يا معشر الرجال مخدوعون.

تأملها بوجهٍ غلفته موجة ضباب جلبتها كلماتها القاسية، لوح بيديه حائراً، أنه لا يعلَم! انحدر شهاب لامع يرجم الظلمة خلفها تصدع في جسمها إيقاع ألحان التمرد، انطلق بعقله لحن مشاغب يحرك شفتيه بكلمات الوداع، قائلاً:

ـ إلى اللقاء.

كطائرٍ خطافٍ، جاءته كلماتها:

ـ أكمل جميلك، أوصلني إلى منزلنا.

قصر مضيء على شكل مسجد، يعتمر قبعة من مصابيحٍ كاشفةٍ تنير اثنتي عَشَرَةَ قبة خضراء، يلّف القصر شال أضواءٍ فضيةٍ تضفي عليه قدسية تفيض بريقا،ً تزدحم شموسه لتصنع شمساً سرمدية تنوس بها اثنتا عَشَرَةَ منارةً بزخارفها السيراميكية الخضراء، تلصف في هدأة الليل الأياري، شرعت تنهش رأسه ديدان عدم التصديق:

ـ استيقظوا يا مخدوعي العالم!

عند بوابة القصر، وقفت فتاة حارسة كأنها فسفورٌ يحترق، داهمته وساوس الخوف تتعثر في صدره قال لها:

ـ ها.. قد وصلت منزلكم، لم يعد وجودي ضرورياً.

ألهبتها كلماته، تساءلت بحنو دافئ:

- أسمعت يوماً بمضّيفٍ يطرد ضيفه؟

ابتسم مستسلماً، فاخترقتْ السكون ضحكتها الرنانة، انتشرت تزيح ظلمات وثنية امتدتْ معها ألسنة الأضواء تلعق أشجار التوت، انتشى التوت الأحمر بدغدغة نسمات باردة، بثت فيه الثقة بمحدثته، قال:

ـ كلا...

أشارت بيدها أن يلج بوابة القصر، اكتفى بابتسامة ساذجة أظهرت غمازتيه، دخلا سوية ممراً طويلاً جدرانه مغلفة برخام أبيض تزينه زخارف أندلسية، أفضى بهما الممر إلى قاعة تسبح على جدرانها بقع الضوء المتوهجة، تضيء لوحات نساءٍ شقراوات عاريات، فيبارك نور المصابيح لوحات لطيور حب بمناقير ذهبية، ببغاوات بذيول حريرية، غزلان بقرون عاجية، أرانب بيض بعيون زمردية، اجتازا القاعة نحو قاعة جانبية جدرانها مغطاة برخام أسود، سقفها تزينه فسيفساء غاية في الروعة، يلتمع أمام زواياها الأربعة مباخر نحاسية لامعة تنفث بخوراً يضوع برائحة العنبر، بغتة، تحولت الفتاة إلى لهب أشقر سرعان ما استوى إلى فتاةٍ يشتعل جسدها العاري لهباً غمر القاعة نوراً، تراجع مذعوراً، ارتعد، اصطكت أسنانه ببعضها، دخلت عليهما فتاتان ناريتان عاريتان، أراد أن يصرخ، فمه مفغور، فأغمض عينيه، المنذهلتين من شدة إشعاعات أجسادهن الفتية، فاحت رائحة بخور طيبة، مشتْ ثلاثتهن نحوه، راحتْ مهاميز ذهبية مربوطة بأرجلهن تحتك بالأرض فتطلق شظايا نارية حارقة، رفع يده اليمنى أمام عينيه يتلافى حدة الضوء، هتفتْ به إحداهن:

ـ أعلمت كم أنتم مخدوعون معشر الرجال؟

تصاعدت دوامات البخور تحتضن ضفائر النور بحنين مفرط، أحس أن قلبه سيتوقف، كّف عن الحركة، تساءل مذهولاً:

- مَنْ أنتنَّ؟

أجابته إحداهن: نحن الموت...!

تساءَل مبهوتاً:

- ماذا؟

قالتْ إحداهن باستخفاف:

عندما يظهر النجمُ المذَّنب نحّل معه، جالباتٍ الموتَ للبشر!!!

قال مستنكراً كلامها:

ـ لكن البشر يموتون بالجملة كل يوم... بل بالساعات... فما دخلكن بذلك... أنتنَّ كاذبات.

جلجلت ضحكاتهن الهازئة ترج القاعة، تكلمتْ فتاته:

ـ إنك تخاف كل شيء، تخاف الموت، نفسك، وتخافنا.

كلماتها كبقايا خطوات مطبوعة فوق رمال متحركة، قال بعصبية مما جعل لكلماته إيقاعاً حديدياً يصطك وسط القاعة:

ـ نحن جيل الخوف يا هذه... بذار نساء الرعب... أيام الخوف أرضعتنا... وأصابع الشقاء الحديدية فطمتنا... يا جالبات الموت.. أسمعتـ...

قاطعته الأخرى بغضب:

ـ اصمت. لنْ يجديك ذلك نفعاً، لابد من موتك.

حدّق فيهن بنظرة شفقة، وقال بهدوء:

ـ الموت راحة لبائس مثلي، وستصنعنَ خيراً لو عجلتنَّ بموتي.

عقبت فتاته:

ـ يا هذا. نحنْ لسنا بشراً.

لم يجبها، تكلمتْ صاحبة الضفائر النارية بصوتٍ صداحٍ:

ـ إذن سنصنع معروفاً بقتلك.

زكمت أنفه رائحة فمها الشيطانية، أجابها:

ـ بالتأكيد فكل ظالم يقول جئت بالخير، ومعروفه بقتل الناس.

همستْ بأذنه:

ـ ستموت... أنت الآن في مملكةِ الفجيعةِ، برحاب الفناء، لا حياة لك!

مطّ شفتيهِ، وقال بثقة:

ـ لقد عشتُ أزمنة الخوف، البؤس، الغربة، وما أجمل أن أعيش لحظات الموت!

اقتربتْ صاحبة الفم الشيطاني، لتقول بمرارة:

ـ إنك تحيا بالأوهام... فهي زادكم يا بشر.

أجابها بنبرة ساخرة:

ـ أنتنَّ الوَهم بعينه!

صفعته بعنف، بينما الأخريات سَحَبْنَهُ من ياقته نحو بابٍ جانبي أفضى بهن وسط قاعة مملوءة بالجثث الممزقة، تخدرت حواسه، اضمحلت الأشياء مندفعة نحو ظلمات مجهولة، مزقّن ملابسه، أضحى عارياً مذهولاً وسطهن كرجل يدخل عارياً حمام نساءٍ، غطى بيده عورته، تدافعت ضحكاتهن الماجنة تخنق ثقته بنفسه، أمسكتْ كل فتاة بيد من يديه حّل أمامهن الرجل ذو العيون القططية ممسكاً برجليه، مددوه فوق مصطبة  مرمرية بلون الجمر، أطلّت أمام عينه جمجمة معلقة بالسقف، أشارتْ ناحيتها إحدى الفتيات، قائلةً:

ـ إنها جمجمة الحلاّج.

حينما شاهدها، شعر أنْ حياته لها قيمة. لأول مرة يتمسك بالحياة.. فجر بداخله إحساس سيطر على تفكيره راح يكبر.... يكبر.... ليسع العالم بأسره، هتف صارخاً:

ـ عجّلن بالموت... عجلّن.

سحبن مهاميزهن بعنف، راحت المهاميز تحرث جسده، أحدثت فيه شقوقاً عميقة غير مرتبة، عُزفت سمفونية العذاب الأبدية ألحانها الراسخة بالروح: قابيل يذبح هابيل ـ الحلاج يصرخ ما في جبتي إلا الله. وهو كالمنذور يدور ضالاً بأفلاك سديمية، تدفق دمه راقصاً مخضباً سواقي الجسد المحروث، ترافقه نفثات بخار ممزوجةٍ بالدمِ، هجم الألم يلتهمه، زعق بقوة:

ـ يا الله نجني من هذا العذاب.

صُعقت الفتيات لذكر كلمة الله، وبينما دمه، يتعثّر متخبطاً بسواقٍ حُرثت جديداً، تذكر جدته لأمه إذا ما أصابها بأس، تقرأ آية الكرسي، ارتجف قلبه خاشعاً، بصوتٍ مسموعٍ رددها، والفتيات يمزقن جسده حانقات، استمر يتلو الآية الكريمة، وصَلَ إلى قوله تعالى: ]ولا يؤوده حفظهما[ ارتجفن. خبت نارهن. كررها ثانيةً ]ولا يؤوده حفظهما[. ثالثةً تلاها، ندت عنهن صرخات وحشية. رابعة أعادها. ارتعشن رعباً. انكمشت أجسادهن النارية. خفتت نارهن، تصاعدت أبخرة رصاصية تخنق أنفاسه، غص جو الغرفة بسحب دخان كثيفة تقبر موجات الضوء الشابة، للمرة الخامسة والستين رددها. احترقن كملابس صوفية رثة. للمرة الثامنة والسبعين أعادها على مسامعهن، تحولن إلى رماد رصاصي ثقيل، ترتفع منه أبخرة زنخة تلهث فوق صدر فجيعتهن، أغفى وهو يكررها ]ولا يؤوده حفظهما[.

 

تعليق عبر الفيس بوك