أحمد الرحبي
عند التفكير في إنسان المُستقبل، وهو ليس بالضرورة ذلك الإنسان المتخيل بعيد المنال، لكن الإنسان الذي تتحقق على يديه شروط الإنجاز الحضاري، ويشكل بحد ذاته هدفاً ووسيلة للتنمية المستدامة في ذات الوقت، -على الأقل بالنسبة لوضعنا العربي الحضاري والتنموي المزري- نجد أن سعادة (هذا الإنسان) تكمن في التعقل بمواجهة تحديات الحياة؛ بالفهم والانتباه إلى مشاكلها وإيجاد الحلول لها من صميم تفكيره العقلي، وفي التعليم الذي يعتمد على النفس في زيادة المعارف، وأن يكون منطلق التربية لهذا الإنسان المستقبلي هو أن يعرف، كيف يعرف، لا أن يعرف فقط.
وأعظم الهوايات لديه التي لا تحدها هواية أخرى، هي القراءة وتعود الدرس، وهي مواصفات أو مميزات إنسان المستقبل التي يفصلها الكاتب سلامة موسى من خلال نظرته الاجتماعية والعلمية الثاقبة، في كتابه "فن الحياة". وسلامة موسى كان أهم شاغل له في حياته هو الإصلاح الاجتماعي والتجديد الديني، كما تحدث عنه نجيب محفوظ، والذي وصفه بأنَّه استحق بأفكاره التي سبقت عصره، أن يكون عنوان حياته "رجل المُستقبل"، ذلك المستقبل الذي تصوره سلامة موسى أو تصور إنسانه، والذي ليس السعادة بالنسبة له، كما ينشدها الجمهور في أغلب الأحيان بأنها ذهول وتبلد، أو استرسال في العواطف الحيوانية التي تحركها غرائزنا السفلية، حيث إنَّ هذه السعادة ليست جديرة بإنسان راق يرتفع إلى أن يجعل من حياته فناً، كما يوضح سلامة موسى، والذي يعتبر صميم السعادة عنده(هذا الإنسان) هو الوجدان -أي التعقل-، وأنه مهما فدحت الكوارث فإن الوجدان يواجهها في شجاعة وتحدٍ وفهم.
ذلك المستقبل المنشود الذي ليس التربية السديدة فيه، أن نعرف، وإنما كيف نعلم أنفسنا، وزيادة معارفنا، وأن نكون طلاباً مدى الحياة، وليس التربية أن نعرف بواسطتها كيف نكسب العيش، بل هي أن نعرف كيف نعيش 70 و80 سنة على هذا الكوكب في نمو للشخصية وترقية للذهن، حيث يؤكد سلامة موسى: لايجب أن يكون هدف التربية النجاح الحرفي في الكسب؛ إذ يجب أن تهدف إلى النجاح في الحياة؛ لأنَّ الحياة أكبر من الحرفة، والنجاح فيها يقتضي النجاح في الصحة والثقافة والعلاقات الاجتماعية والعائلية، والارتقاء الفني والذهني، فالتربية يجب أن تكون للحياة قبل أن تكون للكسب.
وبالنسبة للقراءة التي عدَّها سلامة موسى أهم الهوايات وأعظمها لأنها الهواية الباقية إلى سن الشيخوخة - وهي في ظاهرها هواية واحدة، ولكنها في صميمها جملة هوايات؛ لأن الذي يعشق الدراسة يجد نفسه مشغولاً بألوان مختلفة من الاهتمامات- يوضح، بأنَّ الفرق كبير بين الذهن اليقظ والذهن الذاهل، وهو يعود في الأغلب إلى عادة القراءة، وكذلك يعود الفرق بين شيخ هرم قد خرف أو تبلد ذهنه، وبين شيخ لا يزال له حدة وفتوة ويقظة وذكاء، إلى أنَّ الأول لم يعتد القراءة، وأن الثاني قد تعودها، يضيف والقراءة تجعل الكلمات مألوفة في الذاكرة سهلة الاستحضار، ولما كانت المعاني مجسمة في كلمات؛ من البعيد جدًا أن نجد رجلا يهرم ويتبلد ذهنه ما دامت الكلمات حاضرة معدة لتنبيهه.
إن القارئ الذي يقرأ الجريدة والمجلة، ويناقش في السياسة، وقد يكافح لمذهب فيها، كما يقرأ الكتب ويقتنيها، ويضع المشروعات لدراسات جديدة، فإن شباب ذهنه يتقدم بذلك، وتتسع آفاقه العملية والأدبية، مثل هذا الشخص لا يسأم من فراغه، ولن يقضيه ذاهلاً في غيبوبة نفسية على المقاهي، ولن يقع في العادات السيئة كالتهالك على التدخين أو الشراب.
إنَّ كتاب "فن الحياة" الذي يدخل في صنف الدراسات الاجتماعية، أو الكتابات التي تهتم بالمجتمع -المنشورة نسخته ضمن إصدارات مجلة الدوحة القطرية، يعكس رسالة سلامة موسى التي التزم بها بأن يغير نفسه ويغير المجتمع، لا من خلال الاعتقاد بالشيء ولكن بتعلمه، وليس من خلال الإيمان بالنظرية، ولكن من خلال فهمها- هو في مادته يشكل برنامجاً للحياة، مصاغاً بلغة سهلة لا تخلو من النصح الموارب الذي يتحاشى الوعظ الفاضح في ذات الوقت، بدءًا من الالتزام بعادات "حسنة" كالرياضة البدنية، والمحادثة بكلمات كريمة، والاعتدال في الطعام، مع التأنق الذي يقتضيه التمدن، لابد أن نلتزم بها ونعتنقها، درءا لعادات كثيرا ما تتسلط علينا، تملكنا وتستبد بنا؛ كون العادة دائمًا هي كالنار، إما خادمة حسنة وإما سيدة مؤذية.