الشعبوية وتَمَظْهُراتُها

د. عبد الفتاح الزين**

 

  1. في الشعبوية :

أرى أن الحديث عن الشعبويةPopulism  وفهم تمظهراتها الإيديوثقافية يتطلب منا القيام بحفريات حتى يسهل علينا فهمها في السياق العربي-الإسلامي في تعدديته من جهة وفي تقاطعه مع سياقات أجنبية أخرى خاصة مع ظهور العولمة التي أجّجت الشعبوية، دفعت البعض إلى الحديث عن شعبوية جديدة New populism.

فبالعودة إلى الجذر (ش.ع.ب.) في معجم لسان العرب لابن منظور[1] سنجده يشمل منى الجمع، والتفريق والإصلاح والفساد. كما استشهد المعجم بحديث ابن عمرو "وشعب صغير من شعب كبير" أي صلاح قليل من فساد كثير. ومفردة شَعَّب (بتضعيف عين الفعل) مقابلها فرّق. والشِّعْب ما انفرج بين جبلين والشُّعبة، المسيل الصغير أو الفرقة والطّائفة؛ أمّا شُعَب الجبال فرؤوسها. كما أن الشَّعب يعني أيضا القبيلة العظيمة. وشُعَب القوم : نِيّاتُهم، فلكل منهم نِيَّتُه. وسمّي الموت شَعوبا لأنه يفرق بين الميت والحي. ومع الاستنتاج الأول لهذا الاستعراض اللغوي، نجد أن الجذر اللغوي المذكور يتضمن الشيء ونقيضه.

ويسجل لنا التاريخ أن مصطلح الشعوبية كان أول مصطلح ظهر له علاقة من حيث الجذر اللغوي بالشعبوية. وقد تم نحت مصطلح الشعوبية كمصدر صناعي من مفردة شعوب (ج. شعب). ففي لسان العرب ورد أن "الشعوب غلبت بلفظ الجمع، على جيل العجم، حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبيّ. وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد، كقولهم أنصاري." وهكذا رأى ابن منظور أن "الشعوب فرقة لا تفضل العرب على العجم. والشعوبي : الذي يصغِّر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم". ولعل كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ يعُّد أقدم الكتب التي حملت إلينا هذا المصطلح؛ حيث جاء فيه : "أنك متى أخذت بيد الشُّعوبي فأدخلته بلاد الأعراب الخلّص، ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفْلِق، أو خطيب مِصْقع، علم أن الذي قلت هو الحق، [...] فهذا فرق ما بيننا وبينهم. فتفهَّم عني فهَّمك الله [...] ثم اعلم أنك لم تَر قوًما أشقى من هؤلاء الشُّعوبِيّة، ولا أعدى على دينه، ولا أشد استهلاًكا لعِرضه ولا أطول نصبا، ولا أقل غُنْما من هذه النِّحْلة"[2].  وهكذا يعتبر الجاحظ أن الشعبوية نِحلة من النِّحَل. وأن هذه عقيدة تقوم كما يوضح على نبذ وكره لما هو عربي والتنقيص منه. وهو ما يذهب إليه القرطبي في تفسيره؛ حيث يورد أن "عادة العرب العرباء، الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب، وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني، الشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم".[3] كما أن ابن قتيبة أورد في "كتاب العرب أو الرد على الشعوبية"[4] "وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد ونغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة، وتلحق بها كل رذيلة، وتغلو في القول، وتسرف في الذم، وتبهت بالكذب وتكابر بالعيان، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف [...] ولمَ أَر في هذه الشعوب أرسخ عداوة ولا أشد نصًبا للعرب من السفلة والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكرة القرى، فأما أشراف العجم وذوو الأخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون ما لهم وما عليهم ويرون الشرف نسبا ثابتا".

من خلال هذه الاطلالة على الحمولة الثقافية التي قدمت لهذا المصطلح يمكننا القول، كما توافق عليه المهتمون بهذه الظاهرة، بأنها حركة أو تيار فكري فارسي مُـناهِض للعرب. وقد بدأت الشعوبية في الظهور في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، واستمرت طوال فترة العصر الأموي، حتى اشتدت وقويت في العصر العباسي على خلفية الصراع حول الأحقية بالخلافة. غير أن الجاحظ يقول في رسالته "فخر السودان على البيضان"[5] : "إن الشعوبية لم تكن تشيّع بين الفرس فحسب، وإنما طالت بقية الأمم، كالأندلسيين والزنج من أهل إفريقيا… ، واجتمعوا -هؤلاء- على العداء للعرب والاستطالة عليهم والحطّ من شأنهم". وسّع المفهوم ليخرج من قالب الصراعات العربية الفارسية ليشمل بقية الأمم والمجتمعات مقابل العرب.

ودون الخوض في صحة هذه الادعاءات من عدمها، فإن أنصار الشعوبية يـعزون ظهورها إلى أسباب عديدة، من بينها :

  • ما هو اجتماعي يتمثل باستعلاء العرب على الموالي (غير العرب الداخلين في الإسلام) ونظرتهم إلى غيرهم من الشعوب نظرة السيد، فيزعمون أن العرب يحطون من شأن الموالي، حتى إنهم لا يمشون معهم في الصف نفسه، ولا يزوجون المولى من عربية، وإذا ما تزوج أحد الموالي من عربية يُطلق على اسم ابنه لقب “الهجين” أو "الخلاسي"، وغيرها من تصرفات العرب التي كانت تحط من شأن غير العربي.
  • وهناك ما هو سياسي؛ إذ عمد الأمويون خلال فترة حكمهم على نبذ الموالي وإقصائهم عن المراكز الحساسة في الحكم. كما كان العرب يختارون الولاة منهم، وكذلك القضاة وأئمة المساجد، ويمنعون الموالي من الانضمام إلى الجيش العربي النظامي المؤلف على أساس قبلي، وإذا ما اقتضت الحاجة لهم فلا يقبلونهم إلا متطوعين ومحاربين راجلين.
  • ومنها ما هو اقتصادي؛ حيث عاش الموالي حالة متردية من الفقر، واقتصرت أعمالهم على المهن البسيطة، في الوقت الذي كان العرب يتسلمون مفاصل السلطة ورتب الجيش. كما أن الضرائب التي فرضت على الموالي المسلمين، كان مبالغ فيها وأرهقت كاهلهم، وقد بررها البعض بسبب الأزمة المالية في منتصف العصر الأموي.

في حين يرى كثير من الباحثين بالاستناد إلى التاريخ المدوّن، أن هذه الأسباب لم تكن الأساس في ظهور الشعوبية، إذ يرجعونها إلى سبب رئيس يتمثل بتأصل العصبية القومية، وتضخم النزعات القومية الاستقلالية في نفوس الموالي، الفارسية منها على وجه الخصوص.

ويبرر مَن يذهب في هذا المنحى رؤيتَه، إذ إن سياسية الأمويين في إقصاء غير العرب عن السلطة، نابعة من أوضاع العرب السياسية والفكرية في الدولة الأموية، فالعرب هم الفاتحون والمنتصرون، وهم من قدموا أكثر التقديم في سبيل انتشار الدعوة الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك؛ فالموالي تسلموا الإشراف على ديوان الخَراج والرسائل، ووظائف الحراسة والحجابة، وفي ميادين فنية مختلفة.

وسيتقوّى دور الشعوبيين مع قيام الدولة العباسية، التي أنصفتهم وفتحت لهم أبواب الوزارة والجيش، وأصبح لهم فيها صوت مسموع ونفوذ واسع. وانضاف إلى ذلك اختلاط الشعوبية بالحركات والثورات المعارضة، من خلال انخراط كثرة من الموالي بنشاط هذه الحركات. وهو ما كان من نتائجه تفريق الشعوبية بين العرب باعتبارهم حاملين راية الإسلام، والحضارة الإسلامية باعتبارها تزاوجاً بين مختلف الثقافات بعد انتشار الإسلام خارج نطاق الجزيرة العربية. وطرح هذا الأمر مسألة دور الثقافات غير العربية في ازدهار الحضارة العربية-الإسلامية مع تبخيس للعروبة كثقافة ارتبط تطورها بظهور الإسلام وانتشاره بين الأقوام غير العربية. ومن المفيد الإشارة إلى أن امتدادات هذه القضايا لا زالت حاضرة في الفضاء العربي-الإسلامي إلى يومنا هذا بأشكال مختلفة.

ومع ظهور الحركات التحررية ونشوء الدول القطرية في إطار صعود إيديولوجيات جديدة في سياق التطورات التي انطلقت مع الثورة الصناعية، بدأ نقاش حول مصطلح "الشعبي" والذي انقسمت فيه الآراء إلى تيارين أساسيين :

  • رأى التيار الأول أن ما هو شعبي يتميز بالابتذال والبساطة إلى حد السطحية. فما هو كذلك يتميز بالشفهية وسيادة التقاليد مع الاحتكام إلى الأعراف لدرجة أن أصحاب هذا التيار يعتبرونها معرقلة للتقدم الاجتماعي ومعارضة لكل تنمية وتطور وهو ما جعلها في نظرهم عاملا من عوامل التخلف. ولهذا اعتبروا أنه يجب استبدال النظام الاجتماعي لهذه المجتمعات التي كان ينظر إليها أن مجتمعات باردة ...
  • بينما اعتبر التيار الثاني أن كل ما هو شعبي هو رديف للثورة والنضالية ضد كل أشكال القهر والاستبداد والاستغلال. وهكذا ظهرت أنظمة شعبية أو اتخذت هذه الأوصاف متدثرة بها لتمرير ديكتاتوريتها ونخبويتها.

هذا التأرجح في النظر إلى ما اعتبر "شعبيا"، وتقييمه من منظور إيديوسياسي أكثر منه فكريا وسوسيوثقافيا فتح نقاشا كبير حول مسألة الأصالة والمعاصرة وكيفية فهمهما في فضائنا الثقافي والعلاقات بينهما[6]. وهذا النقاش غطّى مختلف أشكال التعبير والممارسات.

وبانهيار جدار برلين وما واكبه من تفكك لمنظومة الحلف الاشتراكي، وانتقال من أجواء الحرب الباردة ... والذي كان من نتائجه اندحار الإيديولوجيات أمام حقوق الإنسان، وظهور أجيال جديدة من الحقوق (الحقوق الاقتصادية والثقافية) والانتقال من الحديث عن حقوق الإنسان إلى التركيز على الحقوق الإنسانية خاصة الحقوق الفئوية إلى جانب الحقوق الفردية، سيطفو إلى السطح مصطلح الشعبوية.

فلئن كان للشعبوية جذورها التاريخية المختلفة عن فضائنا العربي-الإسلامي كتيار سياسي فإنها في روسيا القيصرية ظهرت في سياق دخول الأفكار الاشتراكية من الغرب سنة 1870. وخضعت إلى تكييف لتتلاءم مع ظروف الحياة الروسية. وقد أخذ هذا التكييف في الأوساط الاشتراكية الروسية الأولى شكل حركات شعبوية كانت فيها مراهنات النخبة على الثورة تقوم على دور الفلاحين الأساسي. ومع مواجهتها بالقمع، انتقلت سنة 1876 إلى السريّة للقيام بثورة جماهيرية. وتم طردها كذلك من البوادي، فاستولى الجناح الإرهابي على الحركة تحت اسم نارودنوايا فوليا Narodnaïa Volia والتي انطلقت فسي سلسلة اغتيالات كان أهمها مقتل القيصر ألكسندر الثاني في مارس 1881. وفي سنة 1901 تأسس الحزب الاشتراكي الثوري كوريث لهذه الحركات الشعبوية إلى جانب الخزب الاشتراكي الشعبوي. وعن هذه الحركة التي وُصٍفت بأنها يمينية تبلور حزب ذو إيديولوجية ماركسية سيتزعمه لينين.

أما بالولايات المتحدة فإن الشعبوية ظهرت في سياق نتائج الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ساعد على تعاظمها الظروف الاجتماعية التي أفرزها التصنيع والانتشار الاقتصادي مع ما رافق ذلك من تردّي سمعة السياسيين. وهو ما تكلل بتقديم مرشح للحزب الشعبوي في انتخابات 1892؛ وهو ما قاد الغضب الجماهيري أمام هذه التفاوتات إلى رفض كل من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. غير أن فشل المرشح في الفوز شكل ضربة قاتلة للشعبوية عموما ولزعاماتها دون أن تحتفي؛ حيث أن برنامج "الصفقة الجديدة" لفرانكلين روزفيلت شكل نوعا من الاعتراف بالمطالب الشعبية التي رفعتها الحركات الشعبوية ضد تجاوزات "العصابات والبارونات". وسنوات بعد ذلك، سيقوم رونالد ريغان بتركيب جديد ومتناقض بين ليبرالية مسرفة ultraliberalism والشعبوية من خلال نقد جذري للدولة الراعية welfare state باسم حقوق الضعفاء والمعوزين والذين تغتصب مداخيلهم من طرف بنيات وسيطية طفيلية.

بينما لم تنتج مرحلة الحرب الباردة ولا مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين عموما في فضائنا العربي-الإسلامي إلا تبعية فكرية وسياسية بالرغم من وجود كتلة مثقفة شكلت بأصواتها إشراقة دون أن تكون حرجة لإحداث الأثر المطلوب لهامشيتها وللتهميش والإقصاء اللذين تعرضت لهما؛ حيث وصل في عدد من الحالات إلى السجن أو النفي الاختياري. وهذا ما جعل الشعبوية تنتشر في أوصال المجتمع وبنياته إلى حدّ أن أحد المفكرين المغاربة[7] تحدث عن استدامة الديموفوضوية demo-anarchy  كاختيار للاستفراد بالحكم من خلال نظام ديموقراطي شكلي يقوم على دعم القواعد الشعبية التي تنعتها بعض الأدبيات السوسيولوجية بالطبقات الخطيرة لأنها تكون خانعة (= القبول بوضعية الرعايا بدل المواطنين) مادامت لها امتيازات ولو بسيطة، وقد تتمرد إذا ما تم المساس بهذه الامتيازات التي تحصل عليها في إطار الزبونية والمحسوبية. إنها التربة المجتمعية التي ترعرعت فيها الشعبوية في فضائنا العربي-الإسلامي.

من خلال هذا الاستعراض المختزل للشعبوية وتمظهراتها السوسيوتاريخية وتقاطعاتها مع أشكال إيديولوجية تنتمي إلى نفس أرومتها اللغوية، يمكننا القول بأن مصطلح الشعبوية قد يعني إما الحركات الديمقراطية (الشكلية) أو الاستبدادية[8]. وعادة ما تنتقد الشعبوية التمثيل السياسي وأي شيء يتوسط في العلاقة بين الناس وزعيمهم أو حكومتهم. وتسعى الشعوبية، في أكثر أشكالها ديمقراطية إلى الدفاع عن مصلحة المواطنين العاديين وتعظيم قوتهم من خلال الإصلاح بدلاً من الثورة سواء ضمن مؤسسات حزبية أو عبر هيئات وساطة سياسية دون أحزاب او نقابات. وما يجمع بين الأحزاب السياسية التي تعتمد الشعبوية في عملها السياسي، أنها كانت تسعى إلى الدفاع عن مصالح المواطنين دون اعتماد على الصراع الطبقي. وقد واكبت هذه التنظيمات السياسية حركات وتيارات أدبية وفنية تناولت حياة أفراد الشعب البسطاء وعالجتها بنوع من الواقعية عبر مختلف التعبيرات الثقافية والفنية تتأرجح بين الانتصار للنزعة الشعبية على اعتبار أن الفئات الشعبية البسيطة حاملة لمنظور ورؤى جمالية وثقافية يجب الاعتراف بها وبين شعبوية تجتهد في التنظير لكل ما يعارض البنيات والأفكار النسقية القائمة على نقد فكري واجتهاد معرفي.

إن الشعبويين يطالبون بما يسمونه "الديموقراطية المباشرة" من خلال مبادرات جماهيرية واقتراعية تُعْلي من شأن الزعامة. وهذا ما يجعلها، في الفهم المعاصر، ترتبط في أغلب الأحيان بنموذج استبدادي من السياسة، يقوم فيه نظام الحكم على شخصية زعيم له جاذبية وهيبة تجعله "يدعي" تجسيد إرادة الشعب من أجل تعزيز سلطته، وتلتف حوله الفئات الشعبية التي تعتبر الأب الروحي والمنقذ الوحيد.

وتقر الأدبيات الفكرية (السوسيولوجيا، العلوم السياسية ...) أنه يمكن التعرف على الشعوبية من خلال الأسلوب والبرنامج السياسيين لدعاتها والحكامة التي يَتَبَنَّوْنَها؛ إذ غالبا ما يلجأ الشعبوي للانتقاد سياسي بطريقة مزعجة بهدف إرهاب وتخويف الناس مع إلهاب حماسهم. واعتمادًا على وجهة نظر الشعبوية، يقوم البرنامج الاقتصادي الشعبوي على أرضية تعزز مصلحة المواطنين العاديين والبلاد ككل أو من خلال السعي إلى إعادة توزيع الثروة لاكتساب شعبية، دون النظر إلى العواقب المترتبة على البلد مثل التضخم أو الديون، ويوازي كل هذا حجر على الحقوق الإنسانية، وخاصة حرية التعبير والمبادرات المواطنة.

وكخلاصة لهذا التحليل، يمكننا القول بأن الشعبوية تتغذى على كل ما هو شعبي في مستواه العامي البسيط والمبتذل والذي لا يراعي التفاوتات والاختلافات ويستبدلها بالثوابت التي يجعلها مطلقة وقائمة خارج السيرورة التاريخية بل إن هذه السيرورة توظف لدعم هذه الثوابت. وهو ما يجعل الشعبية والشعبوية وجهان لفكر استبدادي وصنوان للديكتاتورية. كما أنها تنتج بل وتعتمد على الشعبوية باعتبارها رديفا للعنصرية باعتبارها تحقيرا لمكانة الأقليات العرقية أو العقدية أو الثقافية ... وهو ما نلاحظه في وقتنا الحالي من تصاعد لفكر شعبوي ينظر إلى الأجنبي بريبة، ولا تحترم الاختلاف، ولا تعترف بالحق فيه.  ولعل التاريخ الحديث والمعاصر حابل بعدد من النماذج الشعبوية من هذا القبيل. نكتفي بالإشارة هنا إلى بعض النماذج من الأنظمة الفاشية (هتلر وموسوليني)، والجماهيرية (القذافي، وبيرلوسكوني)، وحتى الاشتراكية منها (ستالين وهيكو تشافيز) بل ويمكن تعميم هذا بِغَض النظر عن نظام الحكم ملكيا كان أو رئاسيا.

  1. مرتكزات الشعبوية :

بالنظر إلى ما تقدّم، يلاحظ أن الدارس للشعبوية لا يمتلك نموذجا مثاليا ideal-type يُعَرِّف انطلاقا منه الشعبوية بشكل مضبوط ومحدد. أكثر من هذا أن مفهوم "الفضاء العربي-الإسلامي" كتصنيف جيوسياسي هو بدوره موضوع نقاش. فبناء نموذج مثالي يفترض وجود خصائص "منسجمة" وإلا فإن عملية التجريد تنتهي بتضخم الروابط التي ينبغي أن تؤلّف بين المفهوم والمحيط التاريخي والجغرافي المدروس وكذلك الوسط الثقافي والمؤسسي. ومن خلال تناول مختلف نصوص العلوم الاجتماعية والسوسيولوجي والسياسي منه على الخصوص، سنجد أن تعريف الخصائص الأساسية للشعبوية كحركة تحدّد بكونها :

  • نقيضاً للحداثة، يحملها تيار قوي يرفض التقدم باسم الدفاع عن قيم تقليدية ماضوية؛
  •  تعبيراً لمثقفين يرفضون مكانتهم الاجتماعية ويطالبون (أو يبحثون) عن تواصل "أسطوري" مع الشعب نابع من مِخيالهم ("الشعب"، هنا، غالبا ما يُعاد إبداعه من طرفهم لأهداف شخصية):
  • وسيلةً لإعادة البناء من طرف هُويّات مهمَّشة من طرف سيرورات سياسية واقتصادية تعارضها رغبة في العودة إلى اشكال وحدة روحية وثقافية متمثلة كما لو أنها تنتمي لماض تليد.

ولتجاوز هذه العقبات الإبستيمولوجية epistemological نقترح مسلمتين بسيطين :

  • بداية، اعتبار الشعبوية كإيديولوجيا تفترض تأسيس الشرعية السياسية على وجود انسجام بين سدة الحكم السياسي و"الشعب" الذي يعتبر بشكل نسقي متميز عن المؤسسات التي تجسِّد وتمثّل الإجماع بين المكونات السياسية.
  • أما المسلمة الثانية، والتي ترتبط بشكل عضوي بالأولى، فتتمثّل في كون هذه الشعبوية لا تأخذ معناها إلا في إطار أنظمة دستورية قائمة على التمثيلية.

من هنا تبدو لنا "سلطة الشعب" مسألة عويصة لدى فقهاء الدستور في كل الدول؛ حيث يطرحون السؤال التالي : "هل الحكم الذي لدى الشعب عن القضايا السياسية أكثر صوابا من حكم الطبقات العليا؟" فهناك من يعتبرون أن الشعب يتميز "بغريزة سليمة" لينصت للزعماء والقادة الذين يقترحون "أفكارا جيدة" وحلولا لمشاكلهم، لكن هؤلاء حريصون على عدم التصريح بمدى استلهام أو استخلاص هؤلاء الزعماء والقادة لأفكارهم من أفكار ومطالب الشعب. غير أن السياسة "الشعبوية" مقارنة بسياسية الطبقات المتنورة تدفع المحافظين والشعبويين منهم تحت التأثير القوي لتقنيات الاتصال السياسي على الرأي العام إلى إنكار مشروعية إخضاع السياسة لحكم الجماهير. ويجب التنبيه إلى أن هذا الأمر لا يعني رفضا مطلقا لمفهوم "الشعب" الذي يكون المحافظون والشعبويون في حاجة إليه لإعطاء شرعية لمعركتهم ضد خصومهم السياسيين.

في تاريخنا الحديث والمعاصر، خلّف سقوط الأنظمة السياسية الاستعمارية والديكتاتورية والشمولية (مع تصاعد الحركات الاستقلالية، وتقوّى ذلك لما بعد سقوط جدار برلين على الخصوص) إشكالية "الشعب" كموضوع سياسي من خلال أشكال التمرد والثورة والعصيان المدني ... ضد سلطة الحكم التي قد تمارس باسم شرعية عليا غير نابعة بشكل مباشر من نظام قانوني ودستوري. إن المطالبة بسلطة "أصيلة وأصلية" كشرعية ضد انحراف الطبقة السياسية التي تريد الاستفراد بالدولة.

هكذا تبدو الشعبوية في النقاش العمومي، مثلما هو الأمر في العلوم الاجتماعية، سيئة السمعة كما يردّد ذلك عدد من الباحثين والمختصين، ولكن ليس بمعناها الشعبي (الاهتمام بالشعب والالتزام بقضاياه من خلال المطالبة بتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية ...) بل عندما يتم تمثل ما شعبي بشكل مبتذل وساذج. ولهذا أصبحت الشعبوية شكلا يقوم على منطق مضاد للديموقراطية أو غير ديموقراطي دون أن تصل إلى حدّ الاستبداد والشمولية. ومع ذلك، هناك نزعات ميولات مقلقة، يمكن وصفها بأنها قومية، وعنصرية، وتتسم بكراهية للأجانب. إنها تنمو كدودة في فاكهة، لتتحول إذا وتتها الظروف إلى تطرف وميول للعنف.

فكما لاحظنا، لا يوجد، إلى يومنا هذا، تعريف شافٍ للشعبوية. ولكن يمكننا تحديد مرتكزاتها الأكثر شيوعا. إنها تشير إلى العلاقة المباشرة ودون وساطات بين الشعب وقيادته حتى في حالات وجود مؤسسات وسيطية كالأحزاب والبرلمان والنقابات ... ويبلورها الزعيم أو القائد الملهم الذي يجسد السلطة والشعب معا. هكذا تقدم الشعبوية نفسها كنقيض للمؤسسات ومعارض لها وللقوى المنظَّمَة المهيكلة للمؤسسات. إنها تشتغل كأسطورة حيث تصالح في خطابها ما هو متناقض في الواقع وبشكل كبير. إنها نوع من التفكير السحري، وهو ما يجعل هذه التناقضات غير محرجة لها؛ إذ تتوفر على أخلاقياتها، وتحتكم إلى المعنى الخاص بها الذي تعطيه للعدالة؛ لكن إذا لاحقت العدالة أحد قياديها أو أعضائها البارزين في قضايا أخلاقية أو فساد، فإنها تصنع العراقيل لملاحقتهم أو تختلق الأسباب التي يتابعون لأجلها بل تتنتصر لهم ولا تطعن بالضرورة في مصداقيتهم.

وسوسيولوجيا، تجد الشعبوية مرتعها في المراحل التاريخية التي تشهد تغيرات مجتمعية أو سياسية، خاصة عندما تتعثر سيرورة هذه التغيرات، وتدخل الأنظمة السياسية في أزمة؛ فتستفيد من ضبابية المشهد لتطرح نفسها كبديل ينتصر للشعب وحامل لمطالبه. وهذا أمر نعيشه اليوم مع إفرازات الربيع العربي مثلا بعدد من الدول أو حتى في دول غربية مع الأزمة الاقتصادية وتداعياتها وتصاعد التوترات حول الهجرة : هل نعيش عصر نهاية السياسة أو السياسي (الموضوع والفاعل)، كما تنبأت بذلك الأبحاث السوسيولوجية على الخصوص؟[9] إن الشعبوية أمام هذا الوضع تعلن استمرارها، وانتعاشها واعدة بالتغيير دون أن تغيّر نفسها. أنها لا تقدم نفسها كوصفة وليس لها نفس التركيبة الإيديوثقافية، لكن السوسيولوجي ميشال فيفيوركا[10] Michel Wieviorka  يرى أن لها أربع مرتكزات كبرى نستعرضها كالتالي :

  • قد تكون يمينية أو يسارية. وتقوم على نوع من الأصولية الفكرية أو غيرها من الأصوليات. وتتميز الشعبوية اليمينية بكونها غالبا قومية، وعنصرية، وتدعو إلى كره الأجانب. كما أنها ضد المثقفين؛ إذ تدعو إلى انغلاق المجتمع على نفسه داعية إلى مجتمع منسجم وطاهر ثقافيا. فلهذا لا عجب إذا عرفنا أن دعوات الطهرانية والصفاء كلها عرقية وعنصرية وتظهر في أوقات بروز الشعبوية وتحت الأنظمة الاستبدادية. بينما تقوم الشعبوية اليسارية على نمط ديماغوجي مسنود بالزعامة واعدا بالقضاء على النظام القائم. ويدعو هنا كذلك إلى مجتمع مغلق يقوم على نوع من القومية التي تحتكم إلى الانخراط في المؤسسات واعتماد المبادئ التي تدعو إليها. ويظهر هذا الصنف من الشعبوية عندما يتحلل اليسار التقليدي فاسحا المجال أمام أشكال متنوعة للجذرية. ولعل رواية "نهاية الإنسان الأحمر"[11] للبيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش الاصلة على جائزة نوبل للآداب، والتي حللت فيها بشكل بديع صعود الشعبوية أيام سقوط النظام السوفياتي.
  •  كما يمكن للشعبوية أن تكون قاعدية أو زعيمية دون أن تكون لا يمينية أو يسارية. وتتميز القاعدية بشعبيتها ويَقْتات خطابها على عناصر سوريالية ومتناقضة من اليمين وحتى اليسار؛ حيث تعطي انطباعا بعدم انسجامها. كما أنها تقدم وعودا غير قابلة للوفاء على جانب تناقضاتها الكثيرة ودعم مطلق للزعيم القائد. في حين، تقوم الشعبوية الزعيمية على خطاب مهدوي أسطوري، مدعيا تجاوز التصنيفات بين يساري ويميني من أجل نظام من نوع جديد. ويسعى في خطاباته التواصل مع مثقفين/متعلمين عزفوا عن الأحزاب التقليدية (يمين/يسار)، كما أنها تستقطب مفكرين من اليسار واليمين. وهناك نماذج مختلفة ناشئة بفرنسا التي يحكمها حزب "إلى الأمام" بزعامة إيمانويل ماكرون، وبتونس نجد حزب "نداء تونس"، كمثال.

وفي بعض الحالات نجد النماذج المذكورة أعلاه متعايشة في نفس البلد مثلما هو الحال في فرنسا (ماكرون، لوبين، جان-لوك ميلانشون) أو في تونس (نداء تونس، النهضة) ... وقد تدخل هذه الشعبويات في صراعات بينها كحالة إيطاليا مثلا أو حتى العراق ... وقد تتحول هذه الصراعات إلى عنف قد يصل إلى حد الدمار أحيانا (حالة سوريا وليبيا كنموذجين). فليس هناك شعبوية واحدة ووحيدة، وإنما تختلف الشعبوية في تمظهراتها بحسب الظرفية السوسيوتاريخية التي تعيشها البلاد والتيارات الإيديوثقافية التي تخترق المجتمع أو تَرسَّبت فيها.

  1. على سبيل الختم : هل الشعبوية مرض الديموقراطية؟

في الوهلة الأولى، يبدو أن مقاربة الشعبوية من خلال السيكولوجيا السياسية قد تسمح بالتعرف على عنصر مركزي مشترك مع كل ما أشرنا إليه يتمثل في الاقتناع/الإقناع بأن هناك مؤامرة تحاك ضد الشعب (وهذا يختلف عما ينعته الإعلام بنظرية المؤامرة) غالبا ما تكون مصادرها خارجية وأجنبية في الغالب. وتظهر الشعبوية مثلما لو أنها ليست إيديولوجيا ورافضة لها، وضد كل ما هو إيديولوجي من أي صنف كان بل وقد تكون هذه السلبية الإيديولوجية مهد لرفض الرأسمالية، والأمبريالية، وكره الأجانب، والتمدّن ... وغالبا ما تنعت هذه المؤامرة بأنها من فعل قوى خفية وغامضة، ويتم شجبها بأسلوب مريب يمتح من جنون العظمة. وتعود ظروف تمأسس هذه النظرة الليبرالية والنقدية المفرطة للشعبوية في عصرنا الراهن إلى ظهور الدول القطرية، مما ساعد على تصحيح النظرة المعادية لها حيث أنها تقدم نفسها بأن لها توجه إصلاحي يهدف إلى التقدم باعتبارها مستفيدة من الديموقراطية. فقد تقوم بمعارضة مركزية الدولة أو تمركز السلطة وتتحدى سلطان الطبقة الجديدة الناتجة عن (نظام الخبراء). إنها من أعراض الديموقراطية.

وتبدو الشعبوية المعاصرة، بحسب تمثلنا للشعب كتراب أو كعرق. ففي المستوى الأول تكون الشعبوية احتجاجية، وبالتالي تكون تعبئة الشعب للنقد أو إدانة النخب القائمة بحكم الواقع سواء كانت نخبا سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو ثقافية. وهذا الرفض للنخب لا ينفصل عن تأكيد الثقة بالشعب الذي يعرَّف كمجموع المواطنين العاديين. فلهذا، وعلى أساس التعارض بين النخب الواقعية (إن لم تكن شرعية) والشعب، يصف البعض هذا الشكل من الشعبوية بأنه مغال في الديموقراطية، ويقوم بتمجيد صورة المواطن النشيط والمحترس من الأنظمة التمثيلية والتي يرى نها تسلبه سلطته أو تستحوذ على مبادراته. فالمعارضة بين النخبة والشعب يمكن أن أشكال تعارض مانوية بين من هم في الأعلى (البلد الشرعي)، ومن هم في القاعدة (البلد الفعلي) وتعتمد على هذا المكانة الاحتجاجية. هذا النقد المزدوج الذي يستهدف النخبة والشعب يبرر تعريف المشروع السياسي المتمركز حول تقليص التفاوت بين الشعب ومن يحكمونه باسم تمثل معين للديموقراطية المباشرة التي من المفروض أن تدعم المواطن النشيط. إنه الوجه الإيجابي للشكل الأولي للشعبوية السياسية التي تمجد الديموقراطية المباشرة، وتدعو في ارتباط مع هذا إلى توفير أدوات ووسائل مؤسسية (الاقتراع بمختلف أنواعه وأشكاله وأنماطه) تسمح بممارسة ما تعتبره واجبا وحقا.

هل يمكننا الخوف من الشعبوية؟ وهو سؤال عالجته العديد من المقالات عشية صعود قوى سياسية وبروز نخب فكرية تدعو إلى التخلي عما أصبح يعتري الممارسة السياسية.  من جهة نجد السياسيين المحترفين مدججين بشواهد عليا (ديموقراطية المُدَبْلَمين)، وهم نخبة استفادة من النظام التعليمي بأشكال مختلفة وتخولت إلى طبقة مغلقة لا تتواصل مع كل فئات الشعب بل تدير نقاشا هو عبارة عن تناجي (مونولوج) بين أفرادها والذي قد تتواطؤ فيه من خلال توافقاتها السياسوية على حساب مصالح الشعب وانتظاراته تصبح فيه الديموقراطية عبارة عن مراهم أو شكليات.

في مقابل ذلك، هناك السياسة التي تفتقر إلى المهنية والتي تنتصر للفئات الشعبية التي ليست بالضرورة من المستضعفين والمهمشين أو الهامشيين. وتبتكر هذه الشعبوية أشكالا من الديموقراطية التي لا تحتل فيها المحاسبة تعاقدا مضبوطا وسعيا إلى التهرب من تحمل المسؤوليات.

إن خطر الشعبوية يكمن في مغازلتها للغرائز الدنيا لأفراد الشعب غير أن هناك من يرى أن لها إيجابيات إذا كانت تسعى للرفع من قيمة الشعب لتنتج من بينه نخبا جديدة؛ وذلك في السعي إلى التمييز بين شعبوية سلبية وأخرى إيجابية إلا أننا نرى أن الديموقراطية سيرورة لا تحتكم إلى النماذج أو الوصفات ولكنها مفهوم يقوم تأصيله على توسيع مجال المشاركة بما يخلق بضمن حقوق الأقليات في تنوعها واختلافها ضمن تضامن مجتمعي عام يكفل تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية. إن الشعبوية زلزال يتهدد الديموقراطية لأنها غير مكتملة ونهائية مما يجعل البعض يتحدث عنها كسراب تلهثة وراءه كل المجتمعات إلا أنه عليها ألاّ تتوقف لأن "من ينام في الديموقراطية يستيقظ في الديكتاتورية" كما يقول روني كاسين René Cassin. ويمكننا أن نقارب كذلك الشعبوية من زاويتين :

  • من زاوية السلطة، تبدو الشعبوية كما لو أنها تقوم على نداء مباشر للشعب يبدو فيه مفهوما "سوقيا" كناية عن جماهير حاملة لرغبات وحقوق دون واجبات. ومن هنا تنبع الفكرة التي تجعل الزعيم يستلم سلطاته من الشعب مباشرة دون اعتبار (مرور عبر) هيئات وسيطية من طبيعة مجردة وغير مشخصنة من قبيل النظام التمثيلي، والمؤسسات، والأجهزة والسلطات السياسية والإدارية، وكذلك لأنه جزء من الشعب. ومن هنا فإنه لا يتعامل إلا مع الشعب ومنه يتلقى التوجيهات. وبالتالي فعلى الجسم التشريعي أن ينتج قوانين على أساس برامج يريدها الشعب وتستجيب لانتظاراته لكنها في العمق تخدم الفئات الحاكمة والطبقة السياسية في تعارض مع الشعارات المرفوعة.
  • ومن زاوية الشعب، يلاحظ أنه من المبدئي أن تبتكر الشعبوية "آخرا" يكون شمّاعة لكل ما يعانيه (أحداث إفريقيا الجنوبية مؤخرا كمثال). وهذا الآخر (أو أولئك الآخرون) قد يختلفون من شعبوية إلى أخرى. فقد يكونوا من الأجانب (المهاجرين) أو هيئة سياسية أو فئة اجتماعية أو إثنية (غالبا أقلية) ... (الشعبويات في إيطاليا نموذجا). غير أنه من المفيد الإشارة على أن هذا الآخر يتغير مع الظرفية الاجتماعية ومعه يتغير الخطاب الشعبوي.

إن الرغبة في الحفاظ على الرابط مع الشعب تؤثر على السلوك الشخصي ما يجعل الاتصال الجماهيري فرصة لإطلاق وعود معسولة ينخدع الشعب بنفسه (المساندون/المستفيدون على الخصوص) ويعزز الزعيم مكانته. فوسائل الإعلام عبر الشخصنة تجعل الزعيم حاضرا ومتواصلا تخلق نوعا من العلاقة الحميمية الافتراضية التي تخلق الإحساس بالقرب والرغبة في التقليد والشعور بالشبه على حد التماهي.

إن أزمات الديموقراطية المتمثلة في "صعوبة بنائها" وتعقد تدبيرها تساعد على بروز الشعبوية لما يعبر عنه المواطنون (الشعب) من عدم الصبر والتريث والتضامن ... وهنا لا يجب أن نغفل آثار الحداثة (وحتى التحديث) من خلال بروز الفردانية وتقويتها، والرغبة في الاستمتاع، وجنون الاستهلاك تعتبر في جوهرها لاديموقراطية، وفي أحسن الأحوال من الأعراض الجانبية للديموقراطية والتي تنمو على ضفافها الشعبوية. إنها تعبير عن تلبية مصالح ذاتية مغلفة بمطالب شعبية أو مقدمة باسم الشعب في قالب ثقافي هجين ومبتسر. وبهذا تكون الشعبوية رديفة للفاشية وما يلازمها من أعراض.

وخلاصة القول، إن الشعبوية ردة فعل على أوضاع يعم فيها "الخوف الجماعي" عاما كان أو خاصا كما نلاحظه في عدد من الأقطار في وقتنا الراهن. وعلى الفاعلين على اختلاف أنواعهم ألاّ يستسلموا لما قد تتسبب فيه من مخاطر على مختلف الأصعدة.

 

 

المصادر:


[1] نشر دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1300/1883، المجلد الأول، صفحات 497-403

[2] الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، الكتاب الثاني، الجزء الثالث، صفحات 29-30، الطبعة السابعة، 1418/1998.

[3] الجامع لأحكام القرءان، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. دار الكتب المصرية، القسم الأدبي، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1360/1941، المجلد 11،  ص. 189.

[4] ضمن مجموع "رسائل البلغاء" لمحمد كرد علي، مطبعة دار الكتب العربية الكبرى، مصر، 1331/1913، صفحات 269-270.

[5] ضمن ثلاث رسائل للجاحظ من تحقيق وتقديم G. Van Vloten، مطبعة بريل، ليدن، هولندا، 1903، ص.

[6] انظر على سبيل المثال مجلة مواقف التي خصصت عددين لهذه المسألة.

[7] عبد الله إبراهيم، صمود وسط الإعصار. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء (المغرب)، الطبعة الثانية، 1976 [وللإشارة فالأستاذ عبد إبراهيم من الرعيل الأول للحركة الوطنية، ومن مؤسسي الحزب الوطني للقوات الشعبية الذي انشق عن حزب الاستقلال بُعَيْد إسقاط حكومته التي شغل فيها منصب أول رئيس للحكومة في عهد المغفور له محمد الخامس.  بعدها قام كأي أستاذ بالتدريس والتأطير في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس].

[8] استنادا إلى النظرة العاميّة للديموقراطية، فإنها رديف للديكتاتورية مثلما تعني الجمهورية الفوضى. انظر على سيبل المثال بعض الدراسات على صفحات مجلة لاماليف Lamalif المغربية الصادرة بالفرنسية والتي تم الضغط عليها لتتوقف عن الصدور  سنة 1988. [حول هذا الموضوع انظر مؤلف "سنوات الرصاص المعرفية والثقافية بالمغرب (1956-1999) : المجلات والنشر"،  سيصدر قريبا عن المعهد الجامعي للبحث العلمي تحت إشرافي].

[9] انظر على سبيل المثال أعمال لميشيل مافيزولي، وكنت قد دعوته لمحاضرة بالمعهد الجامعي للبحث العلمي سنة 1993 حول هذا الموضوع.

Michel Maffesoli Le temps des tribus. Le déclin de l'individualisme dans les sociétés de masse. Coll. «Sociologies au quotidien», Paris, Méridiens Klincksieck, 1988.

كما أنه أجرى استجوابا نشر تحت عنوان "الديموقراطية غير موجودة"، نقط مضادة (مجلة إلكترونية)، عدد 2 ديسمبر2013.

   https://www.contrepoints.org/2013/12/02/148380-michel-maffesoli-la-democratie-nexiste-plus

[10] للمزيد من الاطلاع على الموضوع باللغة الفرنسية، انظر الرابط التالي : https://wieviorka.hypotheses.org/794

[11] Svetlana Aleksievitch, La fin de l’homme rouge. Actes Sud, paris, 2013

 

 

** أستاذ باحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي – جامعة محمد الخامس

المنسق الوطني للشبكة المغربية للسوسيولوجيا