علي بن سالم كفيتان
حدَّثني رجلٌ عجوز، طاعنٌ في السن، قبل 19 عاما، عن موقف حَصَل بينه وبين الشيخ بريك بن حمود الغافري أول والٍ لظفار في عهد جلالة السلطان، وقال: حضرت إلى مكتب الوالي في مجمع الدوائر الحكومية، القريب من قصر الحصن، وكان الوقت فجراً، فوجدتُ الحارسَ أمامي واقفاً كالطود، وقال لي: "شيخ فلان... أشوفك غبشت (بكرت)"، قلت له: "الحاجة أقلقتْ منامي، ولم أصدق طلوع الفجر حتى أحضر للوالي بريك، عسى أنْ أجد عنده شفاءً لما ألمَّ بي"، فقال الحارس: "لا يُمكنك الدخول الآن حتى يحضر الموظفون"، فقُلنا: "لا بأس من شرب الشاي معك"، فقال: "ابشر"، ونادى على صديقه الراقد على السرير الحديدي قائلاً: "رتب شاي ملبن للشيخ بن ...."، فقام مُتثاقلا ومتسائلا: "... ومن هو هذا اللي جاي من آخر الليل؟"، ومع ذلك لم ينتظر الإجابة، بل أوقد الشولة القريبة منه، وبعد عدة لكمات لقاعدة الشولة، وهو ممسكٌ بها بين قدميه، أصدرتْ هديرها الذي ينمُّ عن الغليان، وعقب دقائق فاحتْ رائحة الشاي الملبن، بعد أن فاضَ على الموقد وأطفأ النار، ليحتسي الثلاثة تلك الخلطة العجيبة، فهي تحوي الشاي والحليب والهيل، وأشياء أخرى لا يُتقنها إلا حراس الباب، وطباخو الوالي.
وما هي إلا نصف الساعة، حتى أقبل الجيب آمن بين حقول النخيل.. إنه الوالي بريك.. ففي العادة هو أول الواصلين، انتفضَ الحارسان، وقاما بعد ارتدائهما للخناجر والمحزم، ووقفا معًا أمام الباب حامليْن بنادق الكند، وأنا خلفهما، وما هي إلا بضع دقائق حتى وصل الشيخ بريك مُبتسماً، وسلم عليهما، وكان بجواره أحد المرافقين العسكريين وبندقيته إلى جانبه، فردَّا عليه السلام، ورحَّبا به، فقال الوالي: "من ضيفكما اليوم؟"، قالوا: "طال عمرك، الشيخ بن ...."، فناداه، وقال له: "تفضَّل، ننتظرك في المكتب، لا تتأخر، معنا زيارة ميدانية لجبهات القتال"، واندفعتْ السيارة إلى داخل مجمع الدوائر الحكومية بظفار، فقام الشيخ وزحزح خنجره ليستوي على خاصرته اليُمنى، وأخذ عصاه مُقتفيا أثر الوالي.
يقول الرجل: دخلتُ الممرَ المؤدِّي لمكتب الوالي، فوجدت المرافِق العسكري جالساً في الرواق على كرسي خشبي، وسلاحه بين يديه، فسلمتُ، ثم قلت له: "أريد مقابلة الوالي"، فابتسم وقال: "ولا يهمك، انتظر فالوالي في غرفة الاتصال اللاسلكي يُجري بعض الاتصالات الضرورية، وسيعود"، قلت: "لا بأس، سأنتظر"، وجلستُ إلى جوار هذا المرافق الصارم الذي لا ينطق إلا عندما يُسأل، ولا يجيب إلا بكلمات معدودة، فجلسنا صامتيْن، لا نستمع إلا لأصوات أنفاسنا، وقرع العصى التي أحملها عندما أحركها بمنتهى الحذر، لكي لا أُحدِث جلبة في المكان. ظل الامر كذلك، وفجأة اندفع إلينا عددٌ من الزوار الرسميين بشكل فجائي، فكان المرافق يقف ويعطي التحية العسكرية، وأنا معه أقف وأجلس لكل داخل وخارج، حتى وقت الضحى، وهنا وجدتُ نفسي مُنهكا؛ فلا نوم في الليلة الفائتة، والآن أقوم بمهمات بدنية تفوق قدراتي وسني، التفتُ للمرافق، وقُلت له: "متي سيقابلني الوالي"، قال بحزم: "عندما يفرغ من ضيوفه الرسميين"، وعلى الفور خرج الوالي من باب مكتبه وكأنه مُغادر برفقة وفد عسكري وبعض الرجال المدنيين، عرفت منهم الشيخ عيسى بن أحمد المعشني، وهنا ناديته بأنني انتظرك من الصباح هنا، فقال لي: "تعال معنا"، فتبعتهم ولا أدري إلى أين نحن ذاهبون، وركبت في السيارة الثالثة المعدَّة للوفد، وبرفقتي رجل إنجليزي وآخر عُماني من الباطنة، ولا أحد منهم يكاد ينطق ببنت شفة، فقلت في نفسي لا بد أنني تورَّطت، فرُبما الوالي لم يعلم من أنا، وما هي حاجتي، وما هو شأني بهذا الوفد الذاهب إلى جبهات القتال؟
مررنا عبر حقول أشجار النارجيل، والغبار يتطاير من خلف السيارات التي تمخر عباب الطريق الترابي، وعلى الطريق وقفت سيارة الوالي بريك، وهي الثانية، فترجَّل منها لكي يتحدث لسيدة تحمل ابنها الرضيع في مهد جبلي يُسمَّى محليًّا "فدات"، وظاهر عليها علامات الإعياء والتعب، ومعها شاتين هزيلتين، لم أسمع الحديث، ولكن الوالي طلب من مرافقيه إحضار مبلغ من المال ليمنحه للسيدة، فعلمتُ أن الرجل الذي يجلس جنبي هو صاحب المال؛ لأنه دفع عددًا من الريالات ليد الحارس الذي أخذها للوالي وسلمها للسيدة، وطلب من سياراتنا -وهي الأخيرة- توصيلها إلى المستشفى، وعلمتُ لاحقا أنَّ الرجل الإنجليزي هو طبيب ميداني، رجعت سياراتنا مُحمَّلة بالسيدة وابنها والشاتين إلى عيادة صغيرة تقع بجانب الحصن، وهنا كان عليَّ الانتظار بالخارج مع صاحب المالية والشاتين، التي كلفتني السيدة برعايتهما حتى تعود، فزادت ورطتي، فبدلًا قضاء حاجتي أصبحت أرعى شاتين هزيلتين عند باب عيادة الحصن، رجع الإنجليزي بسرعة وقال: "هيا نركب لنلحق بالجماعة"، فصحتُ في وجهه: "وأين السيدة؟"، قال إنها تتعالج في الداخل، فقلت له: "والشاتان، ماذا نفعل بهما؟"، قال: "سلمهم لأحد، فلا يُمكننا التأخر عن موكب الوالي"، طلبت منهما دقائق لأتصرَّف، فأدخلتُ الشاتين للعيادة حتى سلمتهما السيدة، وعند عودتي وجدت الجيب قد غادر المكان!!
يقول الرجل قفلت عائدا، أجرُّ أذيال الخيبة على الطريق الترابي، مُتوجِّها إلى عوقد، بعد أن خسرت مقابلة الوالي الذي كان مشغولًا ذلك النهار، ورغم غضبي، كنت أعذُر الرجل؛ فربما ما هم ذاهبون إليه أهم مما يعتريني، ولكن كيف يصحبني؟ وهل هو أخطأ، أم يقصد؟ ولماذا تركني رفاقي في السيارة رغم أنَّني لم أتأخر عليهما؟ كلُّ هذه تلك التساؤلات تزاحمت في مخيلتي، وفجأة، وأنا كذلك، سمعت صفير سيارة من خلفي، وقفت جانباً لأفسح الطريق، فتهادت المرسيدس الخضراء، حتى باتت إلى جانبي، ففتح السلطان النافذة، وقال لي: "اركب"، ولم أكد أصدِّق عينياي، فركبت وأغلقت الباب، صافحني، ثم سألني عن نفسي وحالي، فأخبرته والسيارة واقفة وبعض الناس يصطفون إلى الجوار لتحيته، وبعدها أخبرته بما جرى لي ذلك الصباح، فضحك -حفظه الله- عندما سَمِع عن أمر السيدة والشاتين اللتين كانتا السبب في حرماني من مرافقة الوالي، ومنحاني مقابلة السلطان.