ثقافة السلطة

 

فاطمة الحارثي

كيف يحكُم الضعيف؟! أبحرت في الكثير من الكتب، والبعض منها روايات سياسية وفكرية تُلَامِس الحياة بشكل مباشر؛ من خلال التصوير البلاغي اللغوي الذي يُقدمه الكاتب للمتلقِّي، بعضه مبطَّن والآخر مُباشر ولا يقل فحواه حقيقة عن كتب الفكر والثقافة وحتى كتب السياسة والاقتصاد. إن سلاسة تعبير بعض الكُتاب ممن يمارسون الأسلوب المباشر والكنايات الخفيفة يحمل بين طيات حواراتهم الكثير من عُمق الواقع الذي يصعب على البعض المجاهرة به خوفا من سوء الفهم؛ فالكاتب له التعبير والمتلقي عليه التفسير، وهنا تكمن العقدة في "ماهية التفسير وجموح الخيال".

"ليس لأنها الأنسب للحكم، لكنها الأسهل في السيطرة، وهوسها بالبقاء على العرش الحجري... سيجعلها منصاعة لحلفنا الذي يمكنه الإطاحة بها في أي وقت؛ من خلالها سنحكم ونقرر مصير الممالك الأخرى.." أسامة المسلم - مع تصريف.

هكذا يرسم لنا الكاتب أسامة المسلم ثقافة توكيل السلطة بكل سلاسة، ثقافة لم نحط بها علما في المدارس ولا الجامعات، لكنها واقع لا يُنكر. إذا نظرت للعمق، نجد أنها سياسة انتُهجت من ضعاف القوم ليستطيعوا أن يحكموا من خلف الستار؛ أي يبحثون عمَّن هو في هوس أو حالة من ضعف النفس والإصرار المضلل، المتجرِّد من أية مبادئ، ليتم إغواؤه بالسلطة بشرط الانصياع لكل مطلب كيفما كان، وخلع دثار المبادئ والأخلاق، ناهيك عن ضمر الضمير (جرائم الأيادي البيضاء).

السلطة ليست قوة بل حكمة ودراية، ولم تكن يوما مصدرا للضرر أو تخويلًا للنهب أو الانتهاك؛ لذلك نجد أن خلق نظام الحصانة أمر غريب بعض الشيء وبعيد عن ماهية وثقافة السلطة، في الأساس أن مفهوم السلطة يتربع على عرش السلام وليس التحكم؛ فلا أحد يمكنه فعليًّا التحكم بشيء مهما بلغ من مكانة اجتماعية أو سياسية؛ فالقدر له حضور ودور أيضا، رغم كل شيء، والوسائل المتبعة أو الطرق في الغالب لا تأتي بنفس النتيجة التي خُطط لها، وأن تصادف تطابُق أجزاء بعضها.

"بعض الأشخاص عاجزون عن اتخاذ القرارات الصائبة، ويسعون دائما لتحميل الآخرين المسؤولية" - باولو كويلو.

إذن ما هي السلطة الحقيقية؟ لم يستطع أحد إلى الآن وَضَع تعريفًا شاملًا لها أو تعبيرًا متقنًا؛ بيد أنها ليست مُرادفة للقيادة بكل تأكيد وإن كانت ملازمة للإدارة؛ فإذا نظرنا إلى العمل الجماعي في فريق متكامل لا نجد للسلطة أثرا عمليا؛ فهي فقط على الأوراق من أجل إنهاء معاملات إدارية شكلية كالتقارير. بيد أنَّها واضحة في المؤسسات والشركات النظامية التي تعتمد على الفردية في صناعة القرار، وحسب الدراسات تعد ثقافة السلطة ركيزة من ركائز استدامة العمل ونموه في جميع المنشآت والمؤسسات والشركات، والمنهج السلطوي المتبع لتلك الجهات هو ما يقرر ويحكم نسب العوائد والاستثمار وازدهار الأرباح. إذن؛ فالسلطة سلاح ذو حدين قد يُقيم الأمور أو يُدمرها، ليقودنا ذلك إلى أهمية فهم آلية توزيع الأدوار وأيديولوجية تنصيب السلطة والكيمياء بين البشر.

إنَّ الإدارة الهرمية تخلق نزعة الهيمنة والسيطرة؛ فتتشكل السلطة غير الصحية والضارة بالأداء ومخرجات العمل. وفي المقابل، إذا نظرنا إلى الإدارة الأفقية فهي تقوض وتقوّم السلطة من خلال إعادة هندسة طريقة وعملية تفويض المهام وتوزيع المسؤولية (السلطة) بين القادة أو المديرين، وهذا ينعكس على آليات نظم إتمام العمل. وفي المقابل، يقل التركيز على الوظائف الهيكلية الضيقة، بمعنى تنظيم وإشراك المنظومة الإدارية على هيئة فرق عمل (خلية عمل/مهام) في وحدة تخطيط وأداء وعرض ورأي. والأمر مهم هو ليس بكم الفِرق (عدد الأعضاء) بل بتكاملها، لنعزِّز أهمية تفويض سلطة الفرق التي يجب أن تكون مهيأة بعناية وحكمة؛ وذلك بدعم الكفاءة ومنح الوسائل وتحديد مؤشرات الإنجاز.

الموظف المناسب في الوظيفة المناسبة.. نظرية لطالما أنكرتها ولم أقتنع بها يوما، ربما لأنني أؤمن بالعمل الجماعي أي الشخص المناسب في الفريق المناسب، الأشباه تتلاقى؛ بمعنى البراعة تكمن في قدرة تشكيل فرق عمل متكاملة متماسكة تتحاور وتُنتج كيمياء تلقائي، لأنه يمكن جمع أنفس وقلوب لم يجمعها الله لحكمة هي أبلغ من رأينا ورغبتنا.

---------------

رسالة:

كثيرا ما بحثت في فكر مُتعطشي السلطة عن مصدر هوسهم، واستماتة البعض -قد يصل للفساد والانحراف والجرائم- من أجل الحصول عليها؛ لأجد أن معظمهم -إن لم يكن جميعهم- تنازلوا عن الكثير والمهم والغالي والثمين فقط من أجل "فرض رأيهم". ذاك هو الكِبر وداء العظمة والاعتقاد بالعلوية على الآخرين، في جهل تام بأنَّ الحكيم والعالم الحقيقي لن يسعى لفرض رأيه أو حتى إلى سلطة زائلة، بل يدرك أن التوازن بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة هو الرأي الصائب.