المتمرد بين ما يمكن وما يجب

فاطمة الحارثي

هل مرَّ عليكم وصف الموظف "صانع المشاكل/ غوغائي (Troublemaker)؟ قرأت بعض المقالات من مجلة هارفارد بيزنس ريفيو، عن الموظف المتمرد للمؤسسات والشركات، لأندهش أمام ما توصلت إليه كبرى شركات العالم من قدرة في استيعاب جميع الأيديولوجيات، واستثمارها بما يخدم إنتاجها ونموها وتطورها.

إنَّنا بين أروقة هياكل اقتصادنا، نجد انتقائية غريبة ومحددة لمن -بتقديرهم- يصلح لأن يتم تعيينه أو توظيفه وكأنه في خطبة زواج، لابد أن يثبت أن لديه المال وسوف يكون زوجا صالحا مطيعا وينفذ كل الطلبات. وذات الشروط يجب أن يتحلى بها جميع المتقدمين، وإلا فلا وظيفة له - عذرا أقصد زوجة.

كم مقابلة وظيفية شبيهة، أو تضمنت التالي، مرَّت عليك:

- ما اسمك ؟

- فلان بن فلان الفلاني

- هل فلان الفلاني قريب لك أو نسيبك؟

- ....!

- هل تعرف فلان الفلاني؟

- ....!

- صحيح، ذكرت في سيرتك الذاتية أنك حاصل على شهادات معتمدة؟

- نعم

- هل كان معك فلان في تلك الدورات؟

- ....!

لن أزيد، لكنها أسئلة روتينية يبرِّر المُقابل أنه بطرحِها يحاول أن يُقلل من توتر المتقدم وكسر رهاب الموقف. ربما -وأقول ربما- يُمكننا بحُسن نية أن نصدق ذلك.

إنَّ الشركات المتطوِّرة -حسب هارفارد- استطاعتْ أن تستثمر اختلافَ مُوظفيها بما يخدم مصالحها واستثماراتها، ويحفظ ثباتها في الأسواق العالمية، وهي تثمن الموظف "صانع المشاكل" وتوظفه في المُفاوضات والبحوث الانتقائية، بل ويضعون له مقعدا في جلسات الإدارة التحليلية للتأثير في صفقات الشركة الكبيرة وعكس النتائج الصعبة لصالحهم، ليس لأنَّه يختلق المشاكل ويُربك الخصم، لكن لأنهم وجدوا لديه إمكانيات "فعل ما يمكن فعله" بدلًا من "فعل ما يجب فعله"، وهذه الآلية في حقيقة الأمر تجعل الموظف يخرج عن المألوف والمعتاد، بلغة العمل، عن النظام، ليكسر حواجز ويبني جسور الأرباح خارج نطاق رتابة "ما يجب"، وبالطبع هذا النوع لدينا يُعد "فصيلة سامة"، وجب إبعادها كي يستمر (المفروض/ما يجب)، وعدم السماح للمتمرد بزعزعة الروتين المعتاد الذي تم اعتماده من قبل عِليَة القوم وأعضاء المجالس العُليا.

متى يُمكن أن نصل إلى استثمار الإنسان بالشكل المطلوب بما يخدم الصالح العام وليس المصالح الفردية؟ ومتى نُدرك أنَّ الأنظمة والقوانين ليست كُتبًا مُنزَّلة، وأنها موضوعة؟ أي يمكن لها أن تتغيَّر، بل يجب أن تتغير لتناسب المستجدات التجارية والاقتصادية، متى نعي أنَّ النظام وضع لخدمة الإنسان وليس الإنسان من يخدم النظام. مرونة الأنظمة وتعدُّد مدارك التطبيق أمر مهم، كما أنَّ المسؤول الكامل هو ضرب من المستحيل؛ وبالتالي كيف لناقص أن يُقيِّم من لا يعي أو يُدرك قدراتهم وسعة إمكانياتهم؟ بسبب اختلافهم عنه، وتميزهم في أمور هو "المسؤول" ليس خبيرا فيها، وبديهيًّا لا يستطيع أن يُلم بكل العلوم والتقنيات العملية.

في المقابلات الشخصية، نجد لجنة من أجل توظيف الفرد، أي مجموعة لا تتشابه في الآراء ولا الفكر ليتم القبول؛ ليواجه الموظف فردا واحدا يُدون مصيره ونموه العملي، يرفعه متى ما أراد، ويُنزله كيفما شاء (هل أجادت لجان الشركات والمؤسسات التعيين وفشل الأفراد/المديرين في استثمار الموظف وتطويره؟). الكثير من الدراسات أثبتت أن تراجع الموظفين بل وخروجهم الأساسي يكمُن في مديريهم المباشرين. إذن، هل الإعاقة الحقيقية التي تُحيل بين نجع اقتصاد أي هيكل استثماري هو الفردية؛ بمعنى: هل لو كان تقييم الموظف بذات هيئة تعيينه قد تختلف النتائج؟ اختلف الأمر بالفعل مع الشركات الكبرى العالمية في مجال التقييم الجماعي، ويبقى الأمر لدى مؤسساتنا وشركاتنا لتتعلم.

---------------------

رسالة:

"لا يُوجد كامل على الأرض، وإدراك الموظفين باختلاف مناصبهم ذلك يخفف من حدة التوتر والتعصب في الرأي؛ لأنه من أجل التقاء الأهداف في بؤرة النجاح والتحقق والنمو، وجب إزالة البيروقراطية، وفكر "أنا أعلى منك رتبة وأعلم منك". على القيادات المسؤولة إدراك أنَّ الأزمة لا تكمن في المسؤول المتكبر والمتعالي (فرد)؛ بالتالي يمكن التغاضي عنه، بل ينعكس الأمر على الموظفين والمحيطين (مجموعة)، ليتفاقم الأمر بسيف يُمزِّق كل طموحات البناء والإنتاج ورفع العوائد. ليبقَى الأمر في دوامة الاستقالات، وتكلفة التعيينات الجديدة ومدد تعليمها وتأهيلها لتستقيل (بسبب الفرد وما نثر من سموم)، وتأتي تعيينات جديدة وراء أخرى، وتبقى الدائرة ويثبت الركود ويثبط النمو. المسؤولية تلزم النظر لتفاعل الأحداث وقياس أثرها على المدى الطويل، والتغيير الجذري الصحيح لا الظاهر وعلاج العوارض فقط.