"المكارثية" وشيطنة الآخر

سالم الكثيري

لا يَخْفَى على القرَّاء الكرام أنَّ مصطلح المكارثية (Mccarthyism)، ظهر في خمسينيات القرن الماضي، نسبةً إلى عُضو الكونجرس الأمريكي جوزيف مكارثي، الذي تزعَّم مُحَاربة الشيوعية في أوج صراع الحرب الباردة بين قطبيْ العالم آنذاك: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي؛ حيث وصل به الأمر إلى إلحاق تهمة الشيوعية جُزافا بكل خصومه السياسيين في أمريكا نفسها، ليجد الكثير من النواب وموظفي وزارتيْ الخارجية والدفاع أنفسهم أمام المحاكم بتهمة الشيوعية دون دليل يُذكر؛ وهو الأمر الذي أحدَث إرباكا شديدا في الأوساط السياسية الأمريكية؛ حيث أصبحَ الكل معرَّضًا لهذه التهمة بمجرد مخالفة آراء مكارثي.

وقد استمرَّ هذا الأمر لعدة سنوات إلى أن انتبهت الإدارة الأمريكية أخيرا في نهاية الخمسينيات إلى ضرورة كبح جماح مكارثي، ومراجعة هذا التوجُّه السياسي الذي كاد أن يعصف بالاستقرار السياسي للبيت الأبيض. وبالتعامل مع القضية بعقلانية ومنطق، تبين أنها ليست إلا صراعات وخصومات سياسية ذهب ضحيتها الكثيرمن الأبرياء، هكذا إذن ظهر هذا المفهوم الذي تمكَّنت أمريكا من التعامل معه وفق أسس ديمقراطية وقانونية يسمح للمتهمين بالدفاع عن أنفسهم، واستعادة شخصياتهم الاعتبارية ومكانتهم السياسية.

وبما أنَّ كلَّ ما يحصل في أمريكا والغرب لابد أن يَصِل إلينا في مرحلة من المراحل، فإنَّ هذا التوجه -أي المكارثية- بات معمولا به في كثير من الدول العربية، خاصة في سنوات ما بعد الربيع العربي. ورغم خطورة الأمر، إذا انسل بين أبناء المجتمع الواحد، إلا أنَّ الأشد خطورة هو أنْ تتبناه الحكومات، وتعمل على تصنيف المواطنين: هذا راديكالي متشدد، وثانٍ ليبرالي متساهل، وثالث صوفي أو سلفي أو إخواني... والقائمة تطول! ثم تفترض ولاءهم ووطنيتهم وفقا لهذه التصنيفات المقيتة. وهو ما يظهر جليًّا في معظم الدول العربية حاليا.

لم يَعُد يَخْفَى على أي مراقب للأحداث في الوطن العربي أن النتائج الوخيمة لشيطنة الآخر وتخوينه، باتت ظاهرة أكثر من أي وقت مضى، وأن استمرارية هذا النهج ستؤدي بنا إلى هاوية الصراعات بمختلف أنواعها السياسية والمذهبية...وغيرها؛ لهذا تقع على الساسة وقادة الرأي العام مسؤولية تاريخية في الانتباه لهذه الكارثة والتعامل معها بتجرد بعيدا عن الأهواء السياسية والمصالح الشخصية والحزبية والطائفية، وعلى الجميع أن يُدرك أنَّ الدول لا تستقر أو تتقدم إلا بمبدأ التشاركية من مختلف أطياف المجتمع. أما مسألة إدارة الدول بأحادية صارمة، وتصدير التهم على شكل قوالب جاهزة لكل من يأتي برأي مغاير، فلن يأتي إلا بما نراه اليوم على القنوات التليفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي -وللأسف الشديد- من تقتيل وتدمير وفجور في الخصومة، لم يكد يسبق لها مثيل في تاريخنا العربي.