قصة قصيرة:

المدينة

 

علي السباعي| العــــراق

 

الصراخ:

حفاة، مجانين، بائسون، متسولون، يطلبون الصدقات من المارة في معبد الشمس. صراخهم يجثم فوق أكتاف الهواء، تجدهم أمام كل : ضريح، مرآب، مطعم، وبجانب بائعي السكائر يصرخون:

ـ لله يا سماسرة... لله يا سماسرة، وحدة شفيعكم يا سماسرة.

فتاة تحترف التسول، شعثاء الشعر، بعينين صفراوين حولاوين، تصرخ بدأب:

ـ من كروشكم المباركة تصدقوا بلقمة على جائعة... لله يا أصحاب الكروش المباركة...الله!

الليل خزانة حديدية كبيرة، فيها يدخر المتسولون البائسون، والحفاة الجائعون/ آهاتهم، أحزانهم، آلامهم، يعدونها كدنانير من ذهب، بعدها، يتضاحك المتسولون عندما يتذكرون الفتاة الحولاء وهي تصرخ في المارة:

ـ بارك الله بكروشكم الكريمة لقمة لمحتاجة؟!

***

 

خيط الغش:

يتقدم زعيق الباعة ضجيج الناس المتسوقين، تهيأت أواني الباعة ذوات الحديد الصدئ، لاستقبال ولادة الدنانير وهي تخرج من أرحام جيوب المتبضعين، تسقط الدنانير في الأواني، وهي ما زالت تتنفس وجع عدها مراراً، زعقت امرأة بوجه أحمر متورد، تروج لبضاعتها:

ـ حمراء يا طماطة... حمراء!

تخاطف من أمامها صبيان يركضان، وكل واحد منهما يمسك بيده أكياس النايلون، يتدافعان على زبون طلب شراء كيس واحد، ازداد احمرار وجه المرأة، وهي تتابع عراك الصبيين، هبَّت من مكان تفرجها إثر صراخ أحد الباعة بصوت خشن أنهكه التدخين:

ـ صديق العائلة... حلو يا أسود... يا أحلى صديق.

عيناها العسليتان، تتدافع منهما بروق الجشع، شاهدت رجلاً بلحية يقف أمامها، تغامزت عيناها طمعاً، هتفت بصوت مرحب:

ـ أهلاً ومائة أهلاً، الطماطة اليوم حمراء كخدود العروس، كم كيلو تريد؟

عز على الرجل أن يخذلها، قال بلهجة مدير مدرسة ابتدائية:

ـ أهلاً وسهلاً... كيلوان.. رجاءً أريدها بلون الدم.

رفعت عينها اليسرى، دعكتها بأصابع وسخة، تمتمت بلهجة تلميذ مجتهد:

ـ تؤمر "ماء عيني"! والله كلها مثل الورود.

حدق الرجل الملتحي في الميزان مرتعباً، غير مصدق، أحس بأن المرأة تخدعه، ضرب كفة الميزان النحاسية بعنف، فتساقط مابها، تكلم وهو يهز يداً متوعدة:

ـ أتغشين يا...!!

تدافع الناس لسماعهم سباب الرجل، وتساءل بعضهم، بينما استغل الصبية هذا الشجار ليسرقوا جيوب الغافلين، احتقنت عروقه، وعيناه واعيتان لهول ما يشاهد، صرخ بها بعدما أزاح عباءتها عن قدمها اليسرى:

ـ أيتها اللصة! انظروا هذا الحبل الرفيع، يا ناس... شاهدوا آخر ابتكار للسرقة.

تدافعوا كأمواج نهر يجري بين ضفتين ضيقتين، تساءل أحدهم:

ـ كيف ذلك بالله عليك؟

ازداد وجهها حمرة، اكتست بملامح البراءة فجأة، وبدا حنكها بوشمه النجمي جميلاً، قال بنبرة احتجاجية:

ـ ربطت هذا الحبل بكفة الميزان أسفل الجهة التي توضع فيها الخضراوات، ونهايته الأخرى بإبهام قدمها، وقد غطته بعباءتها.

تصارعت كلمات المتسوقين في التسابق، بقذف المرأة بأشنع الأوصاف، لكنها استأنفت صراخها ببرود، وتلافيف وجهها السمين تتلبد فوقه غيوم الخديعة، تصيح:

ـ حمراء يا طماطة... حلوة يا طماطة...

***

 

الطعنة:

تهيأت نفوس الناس لاستقبال شهر رمضان المبارك، كاستعداد الصحراء لاستقبال هطول الأمطار، تخثرت السماء بالغيوم، احتجبت الشمس في قمقمها، تسارعت خطا الناس في العودة إلى منازلهم، وصل أسماع المارة وهم يخترقون باب الدار، عويلها يرتفع طاعناً رحم السماء أثناء ولادتها المطر. تساءل الناس:

ـ ماذا حصل؟

ضاع سؤالهم، إثر مشاهدتهم: رجلاً أسود البشرة، عمره نيف وخمسون، مسجى على الأرض الاسمنتية والدماء تسيل من عنقه المخروق بخنجر يماني مقبضه من عاج، صرخت العجوز منبهة مستغيثة:

ـ أمسكوه... أمسكوا بقاتل أبيه.... ي.... و..... ي..... ل..... ي......

تقادحت الغيوم، إثر طعنها بصرخة المرأة المدوية، أمسكوا بالشاب ذي البشرة السوداء، عض شفته المتهدلة السفلى بمرارة، تأوه، وعيناه حمراوان تحدقان في عيني أمه العجوز، تساءل أحد الشيوخ:

ـ ماذا حصل؟

غامت عيناها بسحابة من الدموع، فأمطر لسانها بدل عيونها كلمات مؤلمة:

ـ لقد بعنا بعضاً من أغطيتنا الشتوية من أجل شراء: رز، طحين، بقوليات وسكر، استعداداً لشهر الطاعة والغفران، أخذ زوجي المبلغ ليشتري المواد الغذائية، بعودته من السوق جلب لنا يا ويلي... يا ويلي..

فرغت من عويلها، وقالت بنبرة تتمزق فيها الخيبة وجعاً:

ـ جلب قناني خمر! قناني عرق، ونحن جياع...؟ ولهذا تشاجر ابني مع أبيه غيظاً لصنيعته الشنعاء، فطعن أباه بالخنجر... يا ويلي...

اصطفقت الأكف مع بعضها تعلن أسفها، وبصبر تهيأت النفوس لاستقبال عيد الفطر المبارك.

***

 

الأكفان:

الناس في سوق الهرج، تلتصق، كالكف على الكف، علت أصواتهم تختلط مع هدير رتل من السيارات تشيع جنازة بزعيق منبهاتها، حدق رجل ذو شارب كبير يصل حد حنكه، تساءل في ذات نفسه:

ـ من أين حصلوا على الكفن؟ رغم أنني جمعت أكفان المدينة كلها!!

تدافعت الأجساد، تشابكت الأصوات مختلطة بضجيج الباعة وهم يروجون عن بضائعهم، نزلت الشمس إلى وسط سوق الهرج، تحرق بأشعتها جباه الباعة، علا صوت الرجل ذو الشارب العظيم:

ـ أكفان.. أكفان للمزاد.

تجمع المزايدون، أنفاسهم زنخة، عيونهم لائبة، أفواههم شرهة، استمر الدلاّل يجعجع:

ـ من يفتح المزاد؟ أكفان صنعت بأيد ماهرة من أرقى الأقمشة المستوردة، من يزايد؟ من؟ هتف رجل بكرش كبير: لماذا نزايد على الأكفان؟

صرخ الدلاّل.

ـ كلنا ميتون كلنا آثمون، لهذا نحتاج إلى الأكفان في الوقت الحاضر!

عقب أحدهم معلقاً:

ـ نذهب إلى جهنم بأبهى كفن. يا آثم!

انطلقت صرخات ضاجة من أفواههم الذئبية، هتف رجل أصلع بكرش عظيم:

ـ ألف دينار.

اهتز الشارب الفرشاتي إثر زعقة صرخ بها فمه:

ـ ألف دينار... من يزايد؟ ها... ألف دينار... من يزايد؟

ساد الصمت ، صرخ الدلاّل مباركاً:

ـ مبارك عليك الأكفان.

تراجعت الشمس متعبة، تسابق الناس للتحلق حول ذي الكرش الكبير، وهو يعلن عن افتتاح مزاد ثانية.

ـ أكفان، أكفان للمزاد من يزايد؟ أكفان للسماسرة بتشكيلات متعددة!!

***

 

الراية:

فكت الطلاسم، أضيئت قناديل سحرية، انبثق منها النور خافتاً، حشد من المجانين يخرجون من أزقة مدينتنا الضاربة في الحزن، يمسكون بأيديهم المتشققة أغصان الرمان، ملفوفة عليها خرق خضر، تدافعوا يرفعون راياتهم الخضر، وحناجرهم مراجل تطبخ الكلمات، صائحين:

ـ لايوجد حظ... لا يوجد حظ!

ظهر للقمر أربع وأربعون قدماً، حملته بعيداً... بعيداً، تلوى صوت الفتاة المتسولة، تنتف شعرها الكث، وعيناها الحولاوان ضائعتان في تحديقهما نحو الأجساد المجنونة، تصرخ بصوت يرغي في الهواء بؤساً:

ـ الحظ... الحظ موجود في كروش السماسرة!!؟

 

 

تعليق عبر الفيس بوك