لعنة المعرفة!

محمد البادي

في كثيرٍ من الأحيان نُصادف شخصا غريبا أو تائها في منطقة معينة، يسأل عن عنوانٍ ما، وبما أننا من أهل تلك المنطقة ونحفظها شبراً شبراً، ومن أجل مُساعدته في الوصول لوجهته المقصودة بكل يُسر، نُسارع بوصف العنوان المنشود بكل حَمَاسة وحُسن نية، ولكن ينتهى الأمر بنتائج كارثية؛ فالشخص التائه يضلٌّ أكثر وأكثر، رغم أنَّنا بالطبع نحفظ المنطقة عن ظهر قلب ونعرف العنوان جيدًا، لكن أُصِبنا بلعنة المعرفة، فأخذنا نُدلِّل على العنوان بأشياء مألوفة لدينا وكأننا نصفُه لبعضنا البعض.

الأمر نفسه أيضًا يحدُث مع الأبناء حينما يُحاولون تعليم آبائهم لأول مرة كيفية استخدام الهواتف الذكية الحديثة والتعامل مع برامجها؛ فيندهشون من بُطء فهم واستيعاب آبائهم، وسُرعان ما يصبهم اليأس وينفَد صبرُهم، وكذلك أيضًا تكون الحال حينما يحاول الآباء تعليم أبنائهم قيادة السيارة لأول مرة.

وهذا هُو ما يحدُث بيننا في الكثير من المواقف اليومية التي نتعرَّض لها طوال الوقت؛ حيث يَكُون المتحدِّث في وادٍ، والمستمع في وادٍ آخر.

هذه الفَجْوة الكبيرة بين الخبير بالأمر والمستمِع، أطلق عليها علماء النفس "لعنة المعرفة"؛ فالخبير يتحدث عن الأمر بسهولة جدًّا بحيث يتوقع من المتلقِّي الفهم السريع لما يعنِيه، وإذا لم يفهم أسقط عليه أوصاف البَلَادة والغباء وعدم الفهم، في حين أنَّ الخطأ ليس شرطاً أن يكون من المتلقِّي، بل رُبما يكون من الخبير نفسه، الذي لم يستطع أن ينزل بمستواه المعرفي إلى مستوى المستمِع.

اللعنة المعرفية تتكرَّر في كلِّ مناشط الحياة اليومية؛ فعلى سبيل المثال وليس الحصر، نَرَاها في مُؤسسات التعليم العالي عندما نَجِد مُعظم الطلاب لا يستطيعون فهم شرح المحاضر، مع أنَّ الجميعَ يعتبره بحراً فيَّاضاً في المساق الذي يدرسه، في حين أنَّهم يفعلون ذلك بسهولة تامة عندما يشرح المُعيد نفس المساق؛ لأنَّ المُعيد حديث عهد بمقاعد الدراسة، وهو أدرَى بمستويات الطلاب من ذلك الخبير، ويعرف ماذا يريدون وما الأسلوب الأمثل لإيصال المعلومة لجميع الطلاب بمختلف مستوياتهم.

أيضاً نَرَى هذه الظاهرة في المدارس، فتذكرون جميعاً ذلك المعلِّم الذي يشرح الدروس، لكننا لا نفهم ما يقول، ولا ندري عن ماذا يتحدَّث، رغم أنه يمتلك خبرة واسعة في التعليم، كان يشرح المسألة متوقعاً منا فهمها بسهولة تامة، فهي سهلة ومألوفة ومن البديهيات التي لا تحتاج إلى شرحٍ وافٍ، يتصور تلقائيًّا أن الأمر سهل الفهم والاستيعاب على الطلاب كما هو سهل عليه، ولكن في واقع الأمر، كان المعلم يتحدَّث في وادٍ ونحن الطلاب غارقون في وادٍ آخر.

كما أنَّ لعنة المعرفة طالتْ المؤسسات الحكومية والخاصة، فنَجِد المسؤول يتحدث مع موظفيه عن خطط وبرامج وأهداف تلك المؤسسة بعناوين عريضة، وبنقاط عامة وغير واضحة، لا يعرف تفاصيلها صغار الموظفين، مُتوقعاً منهم الفهم السريع، فيأتِي التطبيق على عكس ما خطط له، وتكون معه نتائج كارثية لا تتماشى مع أهداف المؤسسة.

كُلنا تقريباً نُعَانِي من لعنة المعرفة، ولكن بنسبٍ متفاوتةٍ، فكلما زادت خبرتك ومعرفتك بأمرٍ ما صَعُبَ عليك شرح وإفهام هذا الأمر لشخصٍ آخرٍ لا يعرف عنه شيئًا، فإذا كنت ترى أنك خبيرٌ بشيءٍ ما جرّب أن تشرحه لطفلٍ صغيرٍ أو تصوَّر أنك تشرحه لطفلٍ صغيرٍ ودرِّب نفسك على ذلك، وليكن بطريقةٍ سلسةٍ، وبأسلوبٍ سهلٍ مبسطٍ، فإنْ نجحت في ذلك فباستطاعتك تطبيقها على البالغين.

والمقولة الشهيرة: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم" تُعبِّر عن مفتاح الحل بشكلٍ كبيرٍ، علينا أنْ نتعوَّد -بشكلٍ عامٍ، وفي أي موقف- أن نضعَ أنفسنا مكانَ الآخرين، وأن نسأل أنفسنا كيف سنتصرف لو كنَّا مكانهم.