"العاشق الثائر"

 

د. ضحى بركات| كاتبة مصرية

 

كان رجلا رزينا تعلوه الهيبة متواضع الجلسة  قليل الكلام مهذب الهيئة أنيق الملبس حييى الخلق . وكان يحضر مع زوجته وهى امرأة جميلة الشكل ممشوقة القوام ناعمة الصوت رقيقة الكلام كان يعمل فى مركز مرموق وكانت تعمل معلمة وأثناء زياراتها للعيادة كنت أستشعر دلالها عليه بشكل زائد عن الحد وكم كان يتحملها عن رضا أو مضض ولكن الحق يقال كان يتحمل منها ماقد لا يتحمله أحد ويكون رد فعله ابتسامة وإن لم تكن صافية ولكنها للناظر تعد ابتسامة.

وكنت أتساءل عن سر تحمله لها أهو الحب أم الوظيفة أم الولد؟ ولما حضرت وحدها يوما لم أتردد أن أسألها عن قصة تمردها على زوج مثل زوجها فقالت: إنه قريب لى وكان يحبنى منذ الطفولة وكبر الحب فى قلبه وأراد أن يتزوجنى ولكن أبى رفض خطبته وزوجنى لرجل آخر عشت معه عشر سنوات وأنجبت منه ولد ثم توفاه الله.. وبقى زوجى الحالى يرفض الارتباط من أى امرأة أخرى فقد عرضوا عليه فتيات كثر رفض فكرة الزواج.

ولما توفى زوجى عاد  ليتزوجنى وعارضه جميع أهله لأنى أرملة ولدى ولد. ولكنه أصر على الزواج منى وقال لأهله  لو لم أتزوجها فلن أتزوج أبدا.. وبالفعل وافق أهله أمام إصراره ووافق أبى هذه المرة لأنه أيقن بشدة حبه لى وأنه من يستطيع إسعادى وتم الزواج وكان حفل العرس مبهرا

وكأنى عروس بكر لم يسبق لها الزواج. وكم كان يطير فرحا من تحقق أمله بإتمام زواجه  منى ومرت الأيام . والحق يقال إنه يفعل كل ما يرضينى ولا يؤخر لى طلبا أو يمتنع عن أى  جهد لإسعادى. . فقلت لها: ولكن دلالك عليه يؤذيه فانتبهى ربما لم يحتمل فالحب نهر لابد له من نبع يغذيه. وإن لم يشعر بحبك له وخوفك عليه واحترامك لمشاعره لن يبقى على حبه لك ولن يستميت فى البذل من أجلك... فضحكت وقالت  لم تأخذه منى امرأة وأنا تحت رجل غيره  فكيف تأخذه منى وأنا فى عصمته.. فقلت: الضغط يولد الانفجار. وربما رأى فيك بعد الزواج  خصالا تجعله ينفر منك وكان قبل الزواج لايراها.

فتحدثت بروح الكبر والغرور صدقيني لن يستطيع. فقلت هذه نصيحتي ولك الخيار. أنا أشفق على الرجل وأشفق عليك.. إنها خسارة كبيرة إن فقدت قلبا يحبك كل هذا الحب... مرت الأيام وتوالت اللقاءات بيننا فى العيادة وفى كل مرة تزداد فى أفعالها دلالا ويزداد رد فعله صبرا وكأنها تريد أن تثبت لى أنها على حق.

وفى يوم جاءت معه إلى العيادة وذهب ليتحدث إلى طبيب الأمراض الباطنية وكان صديقا له فقالت لى أريد أن أقوم بعمل تحليل حمل وتم عمل التحليل وكانت النتيجة سلبية. فقالت دكتورة نقول له إن النتيجة إيجابية لنرى ماذا يفعل ثم نخبره بالحقيقة.. فقلت لها لا تفعلى وكفاك استهتارا بمشاعر الرجل هل  أنت بلا قلب كيف تجعليه يفرح بطفل يتمناه من امرأة يحبها كل هذا الحب ثم تخبريه أنها مزحة. هل هى لعبة أنها كذبة كبيرة لن يغفر لك ولن أساعدك فيها.. خرجت من العيادة ونادته من حجرة طبيب الباطنة. وأبلغته  بكذبتها  فطار الرجل فرحا وبكى من هول  المفاجأة  حتى أنه حملها وأخذ يقبلها فى الممر دون أن يشعر بمن حوله ولما أفاق من فرحته وجفف دموعه جاء إلى العيادة ليشكرنى ويعدنى بهدية وكم كان من الصعب على أن أقول له الحقيقة ولكن كلما مر الوقت ازداد الفرح وكبر الحلم وزادت مواجهة الأمر سوءا .. فأمسكت بصورة من التحليل وسألته الجلوس لنتفهم الأمر.. فشعر أن فى القصة قصة وجلس مستعدا للصدمة بالحقيقة.. وقال: مزحة؟! من زوجتى!! قلت: أرادت أن تعرف رد فعلك أن حملت لتتبين مدى حبك لها ورغبتك فى مزيد الارتباط بها

سكت الرجل ونظر اليها نظرة عتاب عميقة وخنقة بالحسرة والندم والألم. لو فطنت لتمنت من الأرض أن تبتلعها.. ولكن غرورها أعماها.. وبعد فترة طويلة  حضر الرجل لمراجعة العيادة ومعه امرأة أخرى.. وكانت حاملا فى شهرها الثانى ورأيت فى عينيه رغبته فى أن أسأله عن زوجته الأولى وماذا حدث.. فأرسلت الممرضة مع زوجته لأخذ عينة للتحليل وسألته: أين زوجتك الأولى. قال :  نفد رصيدها.. فقد تحملت منها الكثير بالحب ولكنها لم ترحم لى قلبا ولم تقدر لى ودا، ولم تحفظ لى قلبا.. فطلقتها وأنا على رضا  تام أنى عشقت سرابا... والحمد لله عوضنى بخير منها.

أرجو ان أدرك ما فاتنى من عمر وأنا أسير فى حب امرأة لاتستحق الحب؛ بل لاتستحق الحياة.. كانت الكلمات تغمرها المرارة ويكبلها الألم، وتعانقها الدموع وتصفق لها ثورة نبض عشق فأخلص ولم يجد من يقدر إخلاصه.. لم أر الرجل بعد ذلك وكأنه حضر فقط لي ليثأر لكرامته ويستعيد هيبته ومكانته أمامى؛ نعم فالواقع  كما قال العاشق الثائر. . الحب يقتله الغباء وتنفيه الإهانة.. وتنثره هباءا القسوة وعدم الاهتمام.

 

ولكن ماذا نستفيد من القصة..نستفيد منها أن نحافظ على مشاعر من أحبنا ونحفظ كرامة أصدقائنا وأهلنا  فالحب نهر منبعه العطاء وحسن المعاملة فإذا جف المنبع توقف النهر

تعليق عبر الفيس بوك