البطريق

 

حبيب الصايغ| الإمارات – رئيس اتحاد الكتاب العرب السابق – رحمة الله عليه – توفي بعد صراع مرير مع المرض

 

أمطريني أمطريني

يا سنيني

أمطريني في شروقي وغروبي

يا غيوماً ريشها الأبيض

يرتاح علي سفح نحيبي

أمطريني أمطريني

وأمطري بي

واشهدي موتي لأبقي خالداً

رغم تلاشي جبهتي تحت خطاي

وأركضي في وجهي َالشارد،

وأمضي  كشتاء واقف بين عيوبي

ملكاً لم يذدحم إلا على جلدي

ولم يظلم سواي

ومضى نحوي جديد الدم ،

مجبولاً من الأجنحة الأولى

قوياً كالبدايات

كسولاً كدماي

وسحيقاً كمعانيّ التي ما خفتت

ووضيعاً كنجوم تعبت مني ،

ومن ضيق سماي

ملكاً مر على قلبي بطيئاً

كنشيج طالع من قلب ناي

ملكاً توجه الريش على عرش مناياي،

فآخته مُناي.

 

يا دهوراً من بكاء واحتضارِ

يا قرابين النهار

كل حفل  للمراثي منته

إلا دم البطريق إذ ينعى إلى اليابسة البحر

وللبحر البراري .

ليس للبحر سوى أن يستقيل ، الآن ،

من أشرعتي

ليس للبحر سوي أن يستقيل ، الآن ،

من ثرثرتي

ساخطاً أمضي إليه كغريقِ

نادماً اسأله عن دفتر ضيّعته فيه ،

ولم يرجعه

يا بحري الذي قد كنت بحري وصديقي

آه .. يا بحري الذي كنت ـ على الأيام ـ

بحري وصديقي

انتقي من زغب الحسرة

اياماً من التحليق

أرتاح إلي ظلي ، فيوشي بي إلي أشيائه

فكأني لم أكنه.

لم أصادفه بلا ريشٍ، غريباً وغوياً

نافر اللكنة ، مشغولاً بأسمائيَ عن أسمائه

وكأن البحر لم ينس إشاراتي

كأن البرق لم ينتج من الضوء

سوي ما يدخل المدلج في ايمائه أو مائه 

زغب الحسرة يوحي لدمي بالريش

ينمو في دمي ريش

وينمو لدمي ريش

فضاءات من الريش،

وللأقفاص تاريخ طبول مرة مهملة الايقاع

للنار الذي انحت من حزني ،

وللنار  هواياتي ،

وللنار حنيني

والفصول انطلقت حولي ،

لتمضي بي إلي ما لست استقبله

إلا ذبيحاً، من سنيني

غامضاً كالقبر في حشرجة الرقصة ،

مذهولاً كتأبينٍ

 

فراغ الروح قد أجج موتاه

بوعظ خالقٍ

واضحاً كالقبر في صحرائه

ومريبا كالردى

في معدن التيه، وتوق التائه

وبليغاً كلسان الموت في  إنشائه

وبعيداً مثل أعمى ذاهب في جسد البحر

بعيداً مثل راءٍ غائب في رائه

آن للبطريق أن ينهض من ليل جناحيه

إلي أجنحة ملعونة

آن للبطريق أن يمضي إلى البحر

كمن يمضي إلي حتفٍ مضاع

أو إلى حجر أفاع

آن للبطريق أن يمضي إلى البحر

كبحر من صداع ِ

آن للأحداب أن يطعن قوس القزح العالي أميراً في الليالي كالليالي

وثرياً في خيالي كخيالي

آن للأحدب أن يذهب في خنجره

آن للأحدب أن يقتد من وقفته

عنصراً أصلب من عنصره

آن للأحدب أن يركب ظهر الموج

مصحوباً بأصداء رياح ٍ،

وطيور كالرجال

آن للبطريق أن يدخل في الطير

دخولاً فاتحاً.. ألا يبالي

آن للبطريق أن ينهض من ليل جناحيه

إلي أجنحة ملعونة

يا جناحاً من سوادٍ

يا جناحاً من سوادِ

أفق ، الآن ، ولا تنشد نشيد الموت

إلا في احتمالات البلاد

ودع الضجة للقديس

من بحرٍ

ومن برٍ

ومن جوٍ

وسافر في أقاليم الحداد

أو أقاليم الأغاني

واحداً كالطيف في بهرجة الطقس

وحيداً كمساء البحر

موتوراً كأرجاء كياني

وادن مني. نأتلف أو نختلف

 

نلعب بأشلاء المكان

حيثُ نقتاتُ من الوقت

ولا نشرب إلا ظمأ الساعات

والبحر محيط بخطانا ،

ومحاط بالثواني

يا جناحين من الليل اكتما سهدي،

ودورا بي كمنقار

لنبشي راية الفتح

لنعشي رايتان

وجناحاي جناحا موقن أن يديه

أسودتا وأبيضتا

وأبيضتا وأسودتا

حتي رأي في ليلة حلماً من الريش..

ألا ينبئ تاريخ الوسادات بعباس بن فرناس

وشمس ذوبت شمع الأماني؟

آن للبطريق أن يصرخ أو يصدح

 أو ينبح

أو ينعق أو ينهق

 

لابد من ميتة سيدة

أو صحوة سيدة

لابد للبطريق من بحر لكي يعرف معناه

ولابد له من شاطئ

رملٍ

 

جناحين  سماويين

أجواء

ولابد له من لونه الغامق والناصع

كي يمتلئ البطريق بالبطريق

لابد له منه لكي يسبح ملء البحر

ملء الصدر

لابد له منه لكي يبعد عن شطآنه السفلى

ويمشي في حكايات القرى

لابد للبطريق أن يملأ بالبطريق عينيه

وينأى بهما

حتي يرى

أيهذا الطائر الواقف بادر برحيل لائق نحو

المدارات.  تقدم خطوة في الكون .عانق

ألق الفضة . لامس مخمل البحر، فإن

الموج مهد الطير ، لا يستسلم الطير سوي للشمس ، فأغرق في شعاع يغمر الرمل

ولا يذوي ، ولا ينوي سوى أن يتداعى

في شعاع مقبل .

في عبارات لها نبش المناقير .

كتاب الملح يستعصي علي ذاكرة الريش ،

ولكنا سنأوي لخيام المدن الكبرى كبدو، أو

حضارات من البدو . سنأوي كعصور من

أنين وحداء ، ولنا قافلة الطير ، واسراب

من البطريق ، والأفاق من كسرٍ إلي كسرٍ ،

ومن محوٍ إلي محوٍ أصيلٍ .

سوف نأوي لتقاليد لها مخالب تاريخ من الطير ، وتاريخ من القبض علي نبشٍ،

ونأوي لقبور غادرت أعشاشها .

أيها الكامن في اللهفة كاللهفة : كن لي أبدا

أيها المشنوق في حبل وريدي :

إنه أحنى على عنقك من حبل المدى

ليت لي في دمك الطفل دعاء الأم ،

كي يبقي دمي طفلاً  وأبقى ولدا

ليت لي فيك سريراً صاخباً

كي أرقد العالم في دمعي ،

وأحيا صاخبا متقدا

ليت للقلب الذي ينبض في غفلته

جمهرة الجمر غدا

ليت للقتل  صدي قوقعة

داخلة في أذن البحر قروناً

ليت للفضح يدا

مدداً يا أيها الواهب أعمار ضحاياه المرايا

مددا.

تعليق عبر الفيس بوك