حاتم الطائي
◄ تبني نموذج اقتصاد المعرفة يوفر للطالب المعارف اللازمة للنبوغ والتفوق
◄ مخرجات الثورة الصناعية الرابعة لا ينبغي أن تكون بعيدة عن عقول أبنائنا
◄ لا بديل عن حزمة قرارات جريئة لتطوير التعليم.. والبداية بإنترنت الأشياء
المُتَابِع لمسيرةِ التعليمِ في السلطنة، يُدرك جيدًا حجمَ الإنجاز المتحقَّق، ومستوى التطوُّر الذي شهدته خلال عُقود مُمتدَّة من النهضة المباركة، بفضلِ الرؤية الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- وإصرار جلالته على أولوية التعليم "ولو تحت ظلِّ شجرة"، وهي المقُولة الخالِدة التي تُترجِم عزمَ القيادةِ الرشيدة على الاهتمام بالتعليم، وإيلائه أقصَى قدرٍ من الاهتمام، وهذا ما تحقَّق -وللهِ الحمد- وبِتنا نجدُ مَدارسنا في كلِّ قرية ونيابة، وفي أعالي الجبال، الجميعُ يجتهدُ ويكافح قدرَ طاقته، بدءًا من وزارة التربية والتعليم ومُنتسبيها من المُعلِّمين الأجلاء، والكوادر الإدارية الماهرة، والطلاب، وحتى الآباء في المنازل.
لكن -وفي ظلِّ ما يشهدُه العالم من حَولنا من تطوُّرات مُتلاحِقة، لا تستطيع حتى الدول المتقدِّمة مُواكبته- بتنا في السلطنة، وكذلك نظامنا التعليمي، بحاجة إلى المزيد من التحديثِ والتطوير، بسرعةٍ تُؤهِّلنا للحاقِ بركب التقدُّم، ومُسايرة الأمم الأخرى في رحلتها العلمية والمعرفية. وأوَّل ما يَتَبادر إلى ذهنِ مَن ينشغل بقضية التعليم -وأخصُّ بالذكرِ في هذا المقال: التعليم المدرسي قبل الجامعي، الذي يُمثِّلُ ثلاثة أرباع رحلة الطالب التعليمية- الأسئلة التالية: هل نملكُ في السلطنة نظامًا تعليميًّا متطورًا قادرًا على مُواكبة المتغيرات المتسارعة، ويلبِّي طموحات الطالب والدولة أيضًا؟ ولماذا تُعاني مُخرجات التعليم لدينا تحدِّي عدم مُواكبتها لمتطلبات سوق العمل؟ وما هي الآليَّات الناجعة التي تَضْمَن توفيرَ نظام تعليميٍّ على أعلى قدرٍ من التميز والإجادة يُساعِد على تخريج أجيال من الطلاب قادرين على الإمساكِ بزمامِ المستقبل في شتَّى المجالات، خاصة التقنية منها؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تتجلَّى من خلال إبراز مفهوميْن بالغيْ الأهمية؛ أولهما: اقتصاد المعرفة، وثانيهما: الثورة الصناعية الرابعة.
وعِندَما نذكرُ اقتصاد المعرفة، فإنَّنا نتحدَّث عن منظومة اقتصادية متكاملة تعتمدُ على تقنيات المعرفة لتحقيق عوائد اقتصادية متنوعة تُساعد على خلق الوظائف، ومن ثمَّ تطوُّر الحياة وتنويع الموارد، خاصة وأنَّ عناصرَ اقتصاد المعرفة هي: المعرفة الفنية، والإبداع والذكاء، والمعلومات.. وهي عناصر يتمُّ بناؤها وغرسُها في نفوسِ الأفراد منذ الصِّغر؛ أي منذ مَرَاحل التعلم الأولى، وفي سنوات الدراسة بمُختلف مراحلها: الأساسية، والثانوية، والجامعية. فنجد أنَّ المعرفة الفنية الحقيقية تتولَّد لدى الطالب في نظامٍ تعليميٍّ متطوِّر يعتمدُ على توظيفِ المعلومة في صورةٍ عصريةٍ حديثةٍ تُلَائم مستوى الفهم والتنشئة التي عليها الطالب، وتتضاعَف هذه المعرفة مع تنوُّع العلوم والدراسات التي يتلقَّاها الطالبُ داخل المؤسسة التعليمية. ومن هُنا، يأتي دَور الإبداع والذكاء في تَطْوِيع المواد الدراسية في ذهن الطالب، وتحويلها إلى مواد مُحبَّبة إليه لا مُنفِّرة له، مواد يجد فيه الطالب ميولَه، ويُوظِّف فيها مهاراته، ويُصقِل بها تجربته الوليدة. فمثلًا: ليس من المعقول غَرْس معارف ومفاهيم دراسيَّة تجاوزها الزمن (من حيث القيمة المعرفية)؛ بحجَّة أنَّ تغيير المناهج سنويًّا يضَع تكاليف إضافية على كاهل الجهة المعنية. كما أنَّه من غير المنطقيِّ أنْ أُخبر الطلابَ عن الخصائص الفيزيائية لعنصرٍ ما دُون تجربةٍ معمليةٍ تجعل الطالب مُدرِكًا لما يتلقاه من معارف ودروس.
أمَّا المفهوم الثاني -والخاص بالثورة الصناعية الرابعة- فيرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بما سبق ذكره حول اقتصاد المعرفة؛ فهذه الثورة الصناعية الرابعة تولَّدت من رَحِم تطور المعارف، وتمخَّضتْ عنها مفاهيم جديدة وتقنيات كُنَّا نقرأ عنها قبل عشرين عاما في مجلات الخيال العلمي، وكأنَّها دروبٌ من اللامعقول، إلا أنَّ الواقعَ يُؤكِّد أنها باتت حقيقة ماثلة أمام أعيننا. فالذكاءُ الاصطناعيُّ وأنظمة الروبوت الخارقة، والخوارزميات الدَّقيقة، والنانو تكنولوجي، والتكنولوجيا الحيوية، والحوسبة الكمية، وسلاسل الكتل، وإنترنت الأشياء، والتكنولوجيا ثلاثية الأبعاد... وغيرها الكثير من مُخرَجَات عديدة لهذه الثورة.
وهنا، يجبُ أن نُفكِّر بعُمق: هل ما نُقدِّمه لأبنائنا من مناهج تعليمية -سواء داخل القاعة الدراسية، أو في المعامل والمختبرات- يُساعد الطالب على مُواكبة هذه الثورة الصناعية الرابعة؟ الإجابة: نعم، في حالاتٍ قليلة جدًّا.. فلا تزال المهارات الخاصة بالثورة الصناعية الرابعة تنطلقُ من دَوَافع ذاتية لدى الطالب، وليس هناك منهجٌ متخصصٌ مثلا في علوم الروبوتات، ولا إنترنت الأشياء، ولا سلاسل الكتل، أو الحوسبة الكمية في مدارسنا!
وهُنا المعضلة ثلاثية التكوين؛ أي أنَّ المنهجَ لا يتضمَّن ذلك، وأيضا المُعلِّم غير مُؤهَّل لتدريس هذا النوع من الدراسة، إلى جانب أنَّ المدارس غير مُستعِدَّة لغياب المكونات والإمكانيات في المختبرات.
إذن؛ نحن الآن نعلمُ ونُدرك جيدًا نقاطَ الضَّعف التي تُوَاجِه مسيرةِ التطوير في التعليم؛ وهي باختصار: غياب التفكير النقدي لدى الطلاب؛ نتيجة اعتمادهم على أنظمة التلقين والحفظ، وشيوع ثقافة التعليم من أجل الحصول على أعلى الدرجات في الامتحانات واللحاق بتخصُّص دراسي ما ليس لأنَّه يتماشى مع ميول الطالب، بل لأنَّ الأهل رُبما يريدون من ابنهم/ابنتهم دراسة تخصُّص بعينه؛ لأسباب غير عملية.
لدينا أيضًا كوادر تدريسية هي على قدرٍ كبيرٍ من الإخلاص في العمل، لكنَّ الكثيرَ منهم لم يتلقَّ التدريبَ الكافي لتدريس المناهج ذات الصلة بالثورة الصناعية الرابعة. تُعانِي بعضُ مدارسنا من الرَّتابة والمَلل في التدريس، ويحملُ أبناؤنَا أثقالًا من الكتب الدراسية المطبوعة، في وقتٍ تسبحُ أصابعُهم على "التابلت" أسرع مِمَّا يكتبون بأقلامهم!
لذا؛ لا بديلَ عن حزمة قرارات جريئة تدفعُ عملية تطوير التعليم خُطُوات إلى الأمام؛ أولها: وضع خطة لافتتاح مُختبر خاص لإنترنت الأشياء في كلِّ مدرسة، وألا يقتصرُ الأمرُ على مدارس المدن، أو أن تكون تجارب جُزئية في ولاية هنا أو هناك، فخَصَائص إنترنت الأشياء يجب أن يتعلَّمها جميعُ أبنائنا قبل إتمام تعليمهم المدرسي. كما يجبُ أن تتخلَّص وزارة التربية والتعليم من فكرة طباعة جميع الكتب المدرسية؛ فهُناك كتبٌ يجب أنْ تتحول تلقائيًّا إلى مناهج رقمية، يستطيعُ الطالب أنْ يحصلَ عليها عبر الإنترنت، وأنْ يستذكرها من خلال جهاز لوحي أو حاسوب، وأنْ يكون الامتحان كذلك من خلال الإنترنت، مع توفير الضمانات اللازمة لنزاهة الامتحانات. إجراءٌ آخر نأملُ أن نَرَاه كلَّ عام دراسي: وهو أنْ تتحوَّل المناهج إلى مُمَارسات داخل القاعة الصفية؛ فتعلُّم اللغات يجب أن يكون في مُعظمه تعلُّمًا عمليًّا لا نظريًّا؛ فاللغة مُمَارسة، وما أفضل الممارسة بين الطلاب وبعضهم ومعلِّمهم. لذلك؛ أنطلقُ من هذه النقطة إلى مسألة "أنسنة المناهج"، خاصة المناهج الأدبية؛ مثل: التاريخ؛ فكم أتمنَّى أن يكُون تدريس مادة التاريخ قائمًا على قراءة عَمِيقة للأحداثِ التاريخية، لا فقط إلزام الطالب بحِفظ: "في أي ساعة وقعت معركة كذا"، و"كم شخص قُتِل فيها"!!
ختاما أقول.. إنَّ تطويرَ التعليمِ عمليَّة تراكمية تتحقَّق بتضافُر جميع الجهود؛ فالأسرة والمدرسة والمُعلِّم كلهم شُرَكاء في تطوير التعليم، وعلى كلِّ طرف أن يقُوم بواجباته، وأنْ يجتهد كَي تخرُج إلى النور أجيالٌ من حاملِي شُعلة العلم والمعرفة، قادرة على مُوَاصَلة البناء، والدَّفع بعُمان الغالية نحو آفاق التقدُّم والرَّخاء.