قصة قصيرة:

رياح

علي السباعي | العراق

 

      حمله القطار الصاعد من الجنوب وبين جوانحه صدى رياح ضائعة، رياح يلوك صداها وحده، وكأنه يسمع حشرجات روحه تتأهب لقضاء فرصة من الراحة فوق خلجان تحاصرها مشاعر قد سقاها إنسان يحاول أن يشق حياته كينبوع يتدفق من بين الصخور.

استقل (باسل) آخر عربات القطار وقادته ذكريات جعلته يعيش في عالم نهايته غربة وبدايته ألم. عالم لـه طعم الأحلام ونشوة الانتصار، وكأن القطار ومن في القطار أشياء لا يراها وبهذا سرح خياله بعيداً وأخذ يشق درباً وعرة موحلة. لكن! هنالك ما يجذبه ويجعله قوياً، ويصر على الاستمرار كما القطار الذاهب نحو الأمام كأفعى عملاقة لا تحيد عن سيرها.

تذكر زوجته وطفلته إذ حدث في يوم نيساني: سمع ثلاث طرقات متواصلة على باب منزله. حيث ما زال صدى الطرقات يحرك بداخله مشاعر تتمايل، وتتماوج كزوبعة من رياح تعصف بكل شيء، وتحطم كل شبابيك جسده فتؤكد بذلك شكوى مرسومة ببراعة من قبل القدر، فتح باب منزله فظهر أمامه أبوه وعلامات التعب مطبوعة على محياه، فجلس القرفصاء، وقبّل حفيدته، وقال لباسل:

ـ والله زال التعب يا ولدي.

فانتشى الزوجان السعيدان، فبادرته زوجته (لبنى) تعاضد عمها:

ـ البنون زينة الحياة الدنيا.

تنهد باسل وقال بلوعة:

ـ نعم، البنون زينة الحياة.

***

كل شيء يحمل شذاه براقاً كنجوم معلقة في شجرة عيد الميلاد، تحكي عن عالم سعيد، عن عالم صار يعبر عن صورة معاشة، وحياة لها مع كل همسة حكاية، فيسمع صوت اصطكاك عجلات الزمن والقطار وكلاهما يصارع الزمن للحصول على عوالم ليس فيها من يعد وراءك خطواتك، وصدى طرقات ملحاحة تداعب الذاكرة الندية فهرعت لبنى لفتح الباب، ودخل حميها وقد خطف لونه، تمسك باسل بالصبر، وحبس أنفاسه، وبدا يعدها كما يعد خرزات المسبحة فتذكر كلمات معلمه عندما كان غض العود يخبرهم بأن حياة كل إنسان عبارة عن طرق نحو نفسه، فقلة من البشر من باستطاعتهم معرفة أنفسهم، وكثيرون يجهلون ذلك، فينهارون بسببه. فابتسم باسل لكلمات معلمه، فتحسر بقوة وتدفق بداخله صوت الساعات، بل أيام ماضية قد ضاعت سدى:

ـ الحياة لها طعمان: جنون، وأحلام.

صوت القطار، والريح الهائجة تتصدى بعنف للقطار وللزمن معاً، فيسمع صليلها وكأنه يعيش بدوافع تنبع من إصرار يقاوم ساعة وأخرى يندفع نحو سكون الليل، سكون ذلك العالم الصعب الذي يهابه الصغار بالتحديد، ولـه طعم الشهد وحلاوته كحلاوة الطفولة وهي تبتسم للحياة بملء شدقيها، فسرقته من هذه اللحظات  الممتعة طرقات أخرى يتذكرها الآن جيداً. طرقات قوية ومندفعة يكاد باب الدار يتحطم من قوتها، فهرع باسل لفتح الباب وكأنه يعلم في دواخله بأن الطارق شخص يعرفه. فإذا بكبش أبيض ضخم يصارع الباب بقرنيه الكبيرين، فدخل إلى باحة المنزل وبدأ بالثغاء.

تعليق عبر الفيس بوك