حزامة حبايب في "مخمل" تنتصر بالخيال على قسوة الواقع (3 - 4)


أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

ثالثاً ـ حوّا: من قسوة الواقع إلى جمال الخيال:
تعدّ رواية "مخمل" روايةَ شخصيةٍ بامتياز، إذ إنّ الحكاية تتمحور حول حوّا، والشخصيات جميعاً تدور في مدارها، صعوداً إلى أبويها (موسى ورابعة) وجدّتها (نايفة) وموازاة لإخوتها وأخواتها (لطفي وعايد وعفاف وساجدة وضحى) ومعلّمتها وصديقاتها (قمر ودرة العين)، ونزولاً إلى ابنتها (آية) وحفيداتها (حنين وداليا وجنى).
حوّا، إذن، شمس الرواية، والشخصيات الأخرى وحكاياتها لا تخرج عن المدار الشمسي؛ فالحكاية تبدأ مع حوّا وتنتهي معها، تهتمّ بصفاتها الجسدية والنفسية التي تتجسد من خلال الوصف والتطور السردي، تلك المرأة التي كانت طفلة حين ذهبت لتتعلم الخياطة على يد ست قمر، ولكنها كانت امرأة في جسدها، فهي "في الثالثة امرأة ذات قوام باسق، بتشكيلات جسدية كثيرة طيّعة"، ص42، وهي قادرة، بجسدها اللحيم، على حماية أخيها عايد الذي يتبوّل في فراشه من سياط الأب التي لا ترحم: "تحاول حوا أن تغمر جسد عايد المتقشف بجسدها اللحيم، الذي تتبدى لدونته تحت جلابية النوم، فتنزل ضربات القشاط المتطايرة على خاصرتيها وظهرها وأعلى ذراعيها"، ص24.
لم تكن حوّا الطفلة ملاذ عايد فقط، ولم تقتصر وظيفتها على مرحلة طفولتها، فقد ظلّت تحمي عايد، كما بقيت بعد زواجها تذهب إلى بيت أهلها بشكل شبه يومي، فتسخن الماء وتحممه ولم تتوقف عن تحميمه إلا حين صار في الرابعة عشرة "يوم رفعت عنه البطانية ذات صباح، فرأت أمامها فتى طويلاً، بشعر كثيف في ساقيه وذراعيه"، ص204، كما ظلّت تنفق عليه، وتساعده في مشاريعه المخفقة، وتطعمه، وتسدّد ديونه إلى اللحام؛ إذ اعتاد أن يأخذ بالكيلو والكيلوين، معتمداً على أخته التي لا تملّ العطاء، وتؤكّد للحام تأكيد العاجز عن إصلاح الوضع أن يستمر في إعطاء أخيها ما يشاء:
"إذا طلب عايد لحمة.. أعطيه؟
تستدير حوا ناحيته، وترد دون تفكير:
ـ عطيه.
ـ لحمة بلدية؟
تواصل حوا سيرها، هازة رأسها، وهي تجيبه:
ـ لحمة بلدية"، ص109.
وقد استمّرت حوا في حماية الضحية، وأخذ دورها. الضحية تتغيّر، والحامية تبقى نفسها، إذ صارت تحمي ابنتها آية، فتغطيها بجسدها، وتتلقى عنها لسعات حزام نظمي في مواسم استرجاله وشراسته.
ومثلما رعت حّوا أخاها وابنتها، وحمتهما، فقد رعت جدتها نايفة في لحظات ضعفها، على الرغم من أن الأخيرة أجبرتها على الزواج من نظمي، كما قامت حوّا برعاية أمها (كما قامت برعاية جدتها) في عجزها، ففي الصباح "غيرت الحفاضة لوالدتها، وفطّرتها جبنة بيضاء محلاة وبيضة مسلوقة وبسكويت ماري ذوبته في الشاي، ثم أطعمتها نصف تفاحة ونصف كمثرى مهروستين وسقتها ماءً"، ص131، وعند الظهر فتحت الباب لتسمع صوت أمها يناديها، فتدوس على قلبها المعلّق بمنير، ولا تستطيع حتى الرد على رنين هاتفه:
"تتفقد موبايها، تقرأ اسم منير على الشاشة، تهم بأن ترد عليه، لكن والدتها تنادي عليها بصوت مكتسٍ بذعر:
ـ حووو... حوووو!
تترك الرنين معلّقاً، وتركض داخلاً:
ـ حاضر يمّة.. هيني جاي يمّة"، ص110.
حوّا التي تحمل عن الضحية دورها وعذاباتها لم تكن شخصية ساذجة ولا ضعيفة، بل شخصية واعية لما يدور حولها (موقفها من "أبو عبادة" مثلاً يدل على وعي يخترق المألوف الاجتماعي)، وهي قادرة أبداً على التمرّد بغض النظر عن نتائجه، فقد اعترضت على إرادة جدتها حين أخبرتها عن عزمها من تزويجها بنظمي "السرسري"، وعلى الرغم من أن هذا الاعتراض كان مهيض الجناح، فإنه كان أقوى من موقف أبيها وأمها الذين اكتفيا بالاستسلام لإرادة الجدة المتسلطة؛ لذلك دفعت ثمن ذلك الاعتراض، وتكوّرت "على نفسها، كما اعتادت في مرات الضرب الكثيرة، فطالت سلخات الشبشب ظهرها وساقيها وذراعيها"، ص72.
كما تمرّدت حوّا على نظمي حين أكلّ بقّ الفراش جسدها؛ إذ استجارت به ذات ليلة: "راح أموت"، لكنه "ركلها بقدمه فطاحت على الأرض"، ص83. وفي صباح اليوم التالي شقت الفرشة وحطمت السرير قبل أن تحملهما وتلقيهما في ساحة تجميع الزبالة في المخيم وتشعل فيهما النار، وعادت لتنتظر رد فعل نظمي بتحدّ صامت وخيال حيّ: "كانت حوا تتطلع في وجه نظمي ورقبته التي انتفخت فيها الشرايين، فاغتبطت داخلياً لغضبه الممزوج بالعجز التام، ومع هبّات القشاط فوق جسدها، كانت ترخي جفون قلبها على حفيف تنورتها التي تصطك بها ساق مراد من الخلف، فتسمح لدغدغة القماش بأن تدوّخ روحها"، ص85.
وقد ورثت "آية" سمة التمرد من أمّها حوّا، فكانت تدفع عنها أمّها، وتنظر في عيني أبيها نظمي مباشرة، ومن العجيب أن الأم التي زرعت في ابنتها بذرة التمرّد من خلال الممارسة تريد منها أن (تكسر عينها) وتخضع، لحمايتها من الألم:
"فيما تنوح حوا على بعد، ترجوها عبثاً أن تخفض بصرها:
ـ أبوس إيدك يمّه نزلي عينك! منشان الله يمّه وطّيها! أبوس رجليك يمّه نزليها"، ص197.
وفي مقابل حوّا المتمرّدة تقف حوّا العاشقة التي يحدّد الآخر سلوكها، فهي تعشق الخياطة والمخمل والقهوة والعمل مع "ست قمر" مثلما تعشق منير الذي نبت، مع قمر، وردتين في صحرائها.
لقد كان خروجها إلى بيت قمر فسحة من عذاب البيت؛ لذلك لم تكن مستعجلة في التعلّم، وكانت تقضي وقتاً كبيراً في تنظيف البيت، وتأتي بالجبنة النابلسية والحمص والفلافل، والزيتون الأخضر الذي تصنعه والدتها، لتتناول معها طعام الإفطار بحبور لا يوصف "فتعدّ الأومليت كما علّمتها ست قمر: توزع أطباق الجبنة النابلسية والزيتون والزيت والزعتر والحمص الذي تضيف له رشة زيت زيتون، والفلافل على طاولة المطبخ ذات الكراسي الأربعة، تجلسان إلى الطاولة الصغيرة، قبالة بعضهما، أماً وابنة تتقاسمان القصص والرغيف"، ص155.
أمّا منير الذي جاء على غفلة من الدهر، ليحملها بسيارته من مطر غزير، فقد أحّبته وأحبّت حبّه للقهوة وفيروز، وأحبّت هداياه المميزة التي جعلت قلبها يخفق بالسعادة:
•    "تتلصص ببصرها على علبة طقم الذهب الحمراء داخل الكيس؛ تفتح زر العلبة، فيبخ الذهب ـ شديد الشبه بالحقيقي ـ لونه الباذخ في وجهها. تغلق العلبة بسرعة، كأنها لا تريد لبريق الطقم أن يتبدّد أويهدر"، ص137.
•    "وحين تمدّ يدها بخفة إلى أمتار السعادة البنفسجية الغامرة المطوية في الكيس الآخر، لا تستطيع أن تهدّئذلك الإحساس بانها تمتلك شيئاً ثميناً جدا، وجميلاً جداً، من العالم"، ص137.
لقد جاء منير لينتقل حوّا الخيالية الحالمة من ضفة الخيال التي أدمنت الإقامة فيها إلى ضفّة الواقع، غير أنّ ذلك لم يتمّ بسبب مقتلها على يد ابنها؛ ليبقى الخيال ملاذها الوحيد الذي اتكأت عليه في حياتها الطويلة المليئة بالمرارة. لقد استطاعت حوّا خلال سنوات قهرها وحرمانها أن تكوّن قدرةً بديعةً على التخيّل، فتصنع خيالات "متكاملة الأبعاد؛ مكتملة التفاصيل والتقاسيم، تأتي مع ملحقات وجزئيات كثيرة تجعلها ممكنة، بل ممكنة جداً؛ فيها طيف من الألوان والأصوات والروائح"، ص69. فعندما ترى لعبة الحجلة بمربعاتها الثمانية في مخيم البقعة كانت تقطع "مربعات الحجلة محاذرة الدوس على الأضلاع، مخلصة لقواعد اللعبة في خيالها الذي لا يزال نشطاً. ترمي حجراً صابوني الشكل، مصقول الوجهين، فتوقعه برمية مدروسة في قلب أحد المربعات، دون أن يستقر فوق أي من الأضلاع الزرقاء الباهتة، ودون أن يتجاوز الإطار الخارجي للحجلة"، ص16.
ولأنّ خيالات حوّا لا تخذلها، كما يقرّر السرد، ص80، فقد كانت تستعين بها في أشد لحظات حياتها حلكة، ففي ليلة زواجهما و"حين هبط نظمي فوقها أول مرة كادت حوا تموت اختناقاً، فبخلاف همجيته في نهش جسدها الجافل تجمّعت في أنفها زفارة متقادمة كانت تفوح من بدنه الرطب الدبق"، ص75؛ لذلك كان لا بد من استقدام حكاية حب طفولية إلى خيالها، تنتصر بها على بشاعة الواقع: "استقدمت حوا في تلك اللحظة أبهى ما يستطيع خيالها (...) واستدعت حباً صبيانياً يذيب بلادة القلب، دعت حوّا إليها مراد. استجارت بأنفاسه كي تتساقط فوق لحمها، فتحرقها دون وجع"، ص75.
لقد تدرّبت حوّا جيّداً على الاستنجاد بخيالاتها، وفصل روحها عن جسدها الذي كانت "تراقبه يُنتهك دون أن تشعر بأنه انتهاك حقيقي؛ لأنه في تلك اللحظة لا يعود لها"، ص80. وقد ورثت هذه القدرة على فصل الروح عن الجسد من خبرتها السابقة قبل الزواج؛ فبينما كانت شقيقتاها تبكيان من غزو أبيها الليلي لأجسادهما كانت هي تسبقل الأمر بلا مبالاة؛ إذ لم تبكِ "كشقيقتيها، لم تجزع ولم تجفل، ولم تتصلب ولم تتجمد، ولم تتكوم ولم تتكور، ولم تكش ولم تنكمش. استحال فعل أبيها فعلاً آلياً يمس جسدها من السطح، من سطح السطح، ولم ينفذ إلى روحها أبداً"، ص125.
كما استعانت حوّا بالخيال؛ لتفصّل فستاناً جديداً من المخمل الأسود الفاخر لـ "ست قمر" التي بدأت تنكمش وتدخّن كثيراً وتحتضن صورة قديمة ويتغيّر مزاجها نحو الأسوأ. وحين جرّبت ست قمر، في خيال حوّا، هذا الفستان شعرت حوّا "بسعادة قصوى. في تلك اللحظة المقطوفة من شجرة الخيال الوارفة كانت ست قمر أسعد عاشقة في كلّ الأكوان"، ص254.
أمّا بيتها مع منير، فقد كان أكثر خيالاتها إيلاماً وإيغالاً في المأساة؛ فهو الحلم الذي ماتت دونه، ليبقى من بعدها في خيال القارئ يمثّل انتصاراً مجازياً للحب في مواجهة واقع اجتماعي يرفضه ويقطعه من جذوره: "سوف يكون بيتها، وسوف يبنيه منير لها كما رسمته في خيالها، وسوف تكون له حاكورة صغيرة مسوّرة، وسوف تزرع فيها أشجار ليمون وتفاح وتين وعناب ومشمش وخوخ. وطبعاً ستكون فيه معرشة عنب، مفرودة كسماء خضراء تعتلي أحواض الورد والقرنفل والبنفسج والنعناع والريحان"، ص305.
رابعاً ـ شخصيات في مدار حوّا:
ثمة حول حوّا مجموعة من الشخصيات المذكّرة والمؤنثة، تمتاز بصفات عامة مشتركة، وإن كان لكل منها ما يميّزها، فالشخصية الأنثوية عامة خاضعة لسلطة الرجل، والرجل خاضع لسلطة المجتمع، وكلاهما خاضعان لوطأة السائد الاجتماعي والسياسي؛ غير أن الرجل/ الحاكم لا يستثمر حاكميته إلا في إخضاع المرأة وإذلالها، باسم العرف الاجتماعي حيناً، وباسم الدين حيناً آخر، ولا نكاد نلمس أثراً لموقف إيجابي في بيئة حوا العائلية، باستثناء مواقف لطفي التي يمكن تصنيفها "حيادية إيجابية" في أحسن الأحوال.
فالأب موسى يكره كل شيء: يكره أيام الشتاء وأيام المطر ويكره زوجته وولديه وبناته، وهم يبادلونه كرهاً بكره، بسبب قسوته المفرطة وأفعاله المشينة، بما فيها هجرتُه فراش زوجته إلى فراش بناته في ليال طويلة من الظلم والرعب المطبق: "لكن ليل موسى الطويل، ومعه ليل أهل بيته، كان يمضي في طريق أكثر رعباً وإظلاماً. كان موسى يتسرّب من فراش رابعة إلى الغرفة التي تستلقي فيها البنات أرضاً على فرشات هزيلة، منهكات غافيات منكمشات على لحمهنّ الفوار. كانت غفاف تكبر ساجدة بعام، وكانتا في الخامسة عشرة وفي الرابعة عشرة حين سقط لحم والدهما فوق لحميهما تباعاً"، ص122.
لذلك فإن وفاته أثارت في العائلة مشاعر متضاربة، في ظل مجتمع ينتظر من البنات أن يذرفن الدموع غزاراً على رحيل السند والمعين: "كرهت حوا والدها موسى، تماماً كما كرهته والدتها وشقيقاتها وربما أكثر. يوم جاءهن خبر موته غلبت عليهن الصدمة. اعتملت في أنفسهنّ أشياء كثيرة، كثيرة جداً، كانت هناك كلّ العواطف المختلطة والأحاسيس  المتضاربة، إلا الفجيعة. هجمت عليهن أنواع المشاعر كلها إلا اليتم"، ص112.
(يتبع...)

 

تعليق عبر الفيس بوك