كل عام وأنتِ بخير مدرستي

 

علي بن سالم كفيتان

قبل قُرَابة أربعة عقود، ذهبتُ إلى مدرستي في جبل ظفار، وهذا هو العام الأول الذي فقدتْ فيه رفيقي، إلى هُنَاك في كلِّ عام، وفي مِثل هذا التاريخ عندما يحتشد الجميع للذهاب إلى مدارسهم أذهب إلى أبي، ونتحدث عن تلكم الأيام التي غامَر فيها -بكل ما تعنيه الكلمة- لكي أتعلم، وكم كان يسعده أنني تخطيت تلك المراحل الصعبة مثلما راهن علي، كُنا نضحك ونتجاذب أطراف الحديث على أكواب الشاي الأحمر، وهو يقول لي كل مرة: "أتذكر كذا وكذا"، وآخر تلك الجلسات كانت في مثل هذا اليوم من العام الماضي، ثم رحل أبي وترك لي ذكرياتنا، فلا أحد يعلمها كما كُنا نتذاكرها، ولا يخلُو الحديث من بعض المواقف الطريفة التي حدثت في تلك الحقبة.

بالأمس، توجَّه أكثر من 56 ألف معلم ومعلمة، وأكثر من نصف مليون طالب وطالبة، إلى مدارسهم. والمعلمون هم قُطب الرَّحى وهم الذين سوف يرابطون على الثغور حتى انتهاء العام الدراسي سيقفون أمام الله وأمام المجتمع وأمام تلاميذهم بكل ثبات، وسيمنحونهم رحيقَ فكرهم؛ فالمعلم هو الإنسان الوحيد الذي يهدي كل مُقوماته وقدرته لتلاميذه دون كلل أو ملل سيحارب هؤلاء الأساتذة الجهل، ويمنحون التربية الصالحة لأبنائنا لن تُثنيهم البيروقراطية ولا قلة الإمكانيات، ولن يلتفتوا لأجورهم المتواضعة وعلاواتهم وترقياتهم المؤجلة. وكنت أرى -ولا أزال- أن المعلم يجب أن يُعامل معاملة الجندي؛ فالأول يحارب المعتدين ويذود عن حياض الوطن بدمه، بينما المعلم يُحارب بفكره آفة العصر التي تُؤدي لتأخُّر الشعوب، فكنا نأمل -ولا نزال- أن تستمر ترقيات وعلاوات مُربِّي الأجيال، كما هو حاصل في القطاع الأمني والعسكري، ونعلم يقينا أن معالي الدكتورة وزيرة التعليم والتعليم تكافح جاهدة لخير التعليم في عُمان، فمهما ذبلت بعض الأغصان تظل هناك دائما براعم قابلة للنمو وتجديد الحياة.

من هُنا، نتقدَّم إلى كلِّ المعلمين على أرض عُمان الغالية بخالص التهنئة على بدء العام الجديد، ونستودعهم أبناءنا بعد توفيق الله، وليس لدينا ذرَّة شك أنهم قد جهزوا حصيلة فكرهم وتحدوهم الآمال الكبيرة لدفع أبنائهم الطلاب إلى المستقبل الزاهر، فمن وصل الجامعات والمعاهد والكليات، ومن توجَّه لخدمة الأمن والاستقرار، جميعهم خرجوا من مطبخ ذلك الأستاذ الذي يحترق ليل نهار لأجل أبنائنا؛ فلهم من الله الأجر والثواب، ولهم منا عظيم الشكر والثناء، ونعدهم أن نُشمِّر عن ساعد الجد معهم في بيوتنا لخلق إنسان سوي مُنتِج بإذن الله تعالى.

معالي الوزيرة.. ننتظر الحافلات البرتقالية لتعمَّم على كل شِبر في عُماننا الحبيبة لكي لا يموت أبناؤنا اختناقًا أو دهسًا؛ فمن خلالها -وحسب ما دشَّنتم قبل عام ونيف- يُمكن لولي الأمر التواصُل المباشر مع أبنائه ومعرفة مواقع تواجدهم، كما ننتظرُ بشغف اختفاء رزمة الكتب والدفاتر والأدوات التي أثقلت كاهل أبنائنا وجعلتهم حمَّالين أكثر منهم مُتعلمين، سيحدُونا الأمل في أن يمتلك كل طالب جهازًا لوحيًّا عليه جميع المواد، ومدارس ذكية تستفيد من الذكاء الصناعي وتواكب الثورة المعلوماتية التي تُشرف اليوم على الجيل الخامس، ولا شكَّ أنَّ الوقت قد حان لمراجعة المناهج بما يتَّفق ورُوح العصر وتقلبات الحياة: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.

وفي الختام نقول.. إنَّه لَمِن السَّهل على المرء أن ينتقد أيَّ سياسة -ومنها التعليمية- لكنَّ هؤلاء قد لا يدركون حجم المسؤولية العظيمة المنوطة بهذا القطاع، كما أنهم لا يعُون أنَّ العملية التعليمية نمط تشاركي بين البيت والمدرسة والمجتمع؛ فلا تتوقَّعوا أن تقوم وزارة التربية والتعليم بدور الحضانة والتربية والتعليم، وأنتم تغردون كل يوم وليلة عن إخفاق التعليم وتواضع مخرجاته. نعم.. يَجِب الإقرار بأنَّ نظام التعليم الأساسي شابَه بعض الخطأ، ونتائجه اليوم باتت واضحة جلية للعيان، ومن هنا يتوجَّب مُراجعة النظام التعليمي برُمته والاهتمام البالغ بالمعلم والهيئات التدريسية؛ من خلال زيادة الأجور وإمضاء الترقيات والعلاوات، فليس عدلا أن يتمتَّع التعليم العالي بميزات أكبر عن التعليم العام؛ فمن يصنع العجين ليس كمن يتذوقه، وهذه حال الأمر اليوم.

كل عام ومدرستي في أعالي جبال ظفار وجميع مدارس سلطنتنا الحبيبة بخير، وحفظ الله مولانا جلالة السلطان المعظم، وأدام عليه الصحة والعافية والعمر المديد.. وكل عام والجميع بخير.