أحلام ضائعة وشخصية مأزومة في "العجوز يفكّر بأشياء صغيرة" لـ"وليد الشيخ"


أمين دراوشة | أديب وناقد | فلسطين

في روايته الخصبة بالأحداث والشخصيات، ينقلنا الكاتب وليد الشيخ إلى أزمنة مختلفة تمتد من أوائل السبعينيات وحتى العام 2011م، وإلى أمكنة متعددة تبدأ من مخيم الدهيشة في بيت لحم إلى الاتحاد السوفيتي السابق إلى لبنان وتشيلي وكندا.

تبدأ الرواية ببطل الرواية العجوز وهو يتمشى على جسر مهترئ ويمر أمامه شريط حياته، يتذكر في البداية طفولته، وشراءه الترمس من الحاجة فاطمة التي تختلط رائحتها مع رائحة الترمس "وعروق الفطريات المتشققة من المصطبة التي تجلس عليها... منذ بدء الخليقة، مع لحظة الانبثاق الأولى للحياة على هذا الكوكب". (ص9)

يتذكر عندما كان عمره لم يتجاوز السنوات السبع، ما يعني أن عجوزنا في الأربعينيات من العمر! وأرى أن الكاتب قصد أن هذا الرجل الذي يعيش في مخيم للاجئين وسافر ودرس وأقام علاقات متشابكة وعاصر أحداثاً غيرت وجه العالم يشعر بثقل الزمن، وأن أفكاره التي اعتنقها أيضاً ذهبت في مهب الريح بانهيار الاتحاد السوفيتي.

يتذكر أصدقاءه وتجاربهم القاسية وموتهم العبثي الذي جاء دون سابق إنذار، فسليم الناسك الذي يكمل بطلنا غسان نصار يقتل في حادث سير، تاركا معشوقته الشبقة أمل تصارع الحياة وحدها.
غسان لا يستطيع تفسير علاقته بسليم، وما يعرفه "أنهما لا يستطيعان الفكاك من بعضهما منذ سنوات الطفولة الأولى، سليم بصخبه وجلبته وجسارته، وغسان بتوجسه وهدوئه". (ص29) والموت له حضوره الطاغي في حياته، حيث يفقد أيضاً صديقه جهاد الذي مات أثناء إكمال دراسته العليا في موسكو.كما أن أحبته يموتون، فوالده مات وهو في جامعته، والشخصيات التي أثارت إعجابه تغتال كالسلفادور اللندي وجورج حاوي.

وكعادة الإنسان يهرب غسان من تناقضات حياته وأوضاعه الصعبة تحت الاحتلال ليغرق في اللذة الحسية، فيقيم علاقات جنسية عميقة مع مريم اللبنانية وإليزابيل التشيلية وعابرة مع ناستيا الروسية، يبحث عن حضن يشعره بالأمان والطمأنينة ولكنه في النهاية يفشل في الحصول على الراحة النفسية ويعود إلى فلسطين يحمل هموم الحياة وكأنها قدر لا فكاك منها. فيدفن نفسه في عمل حكومي ممل ومضجر لا يحقق له أحلامه العريضة، ينتهي به الحال موظفاً في وزارة الشؤون الاجتماعية، وكأني بالكاتب يقول إن قضية الوطن المحتل لم تعد أكثر من قضية فقراء يبحثون عن المعونة.


الآخر الإسرائيلي في الرواية:
على الرغم من محاولات غسان الفرار من قسوة الاحتلال، والهروب بذكرياته إلى أيام دراسته، فإن الاحتلال حاضر بقوة، ولا يمكن تجاهله. فبعد عودة غسان من موسكو سكن في بيت جالا في بيت جميل يطل على التلال والبيوت.

وبعد فترة أصبح يطل من النافذة فلا يرى غير بنايات متراصة ومنظمة تشبه الكتائب العسكرية، فالمستوطنون المحتلون "صاروا قريباً من نافذته، يطل فيرى بيوتهم على التلة المقابلة، لا يرى بشراً، فقط بنايات متراصة وسيارات عسكرية محصنة على مدار الساعة، تدور حول تلك البنايات، خلف أسلاك شائكة وقوية وعالية، حرمت الغزلان القليلة المتبقية في أراضي بيت جالا شرودها الصباحي". (ص51)
تعود الذاكرة بغسان إلى أيلول من العام 2000م، عندما تحدى شارون الشعب الفلسطيني وقام بزيارته المشؤومة إلى المسجد الأقصى، ما أدى إلى اندلاع المظاهرات في كافة مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، ويرد الاحتلال بكل قسوة وهمجية ويموت الناس، ويتعرف المشاهدون في كل دول العالم على شوارع وسكان المدن الفلسطينية "يرون الموت يومياً يحصد أرواح الفلسطينيين، يتفرجون عليهم، يتضامنون معهم وجدانياً". (ص110) وفي أكبر عملية عسكرية احتلالية منذ العام 1967م تقوم إسرائيل باحتلال الضفة الغربية من جديد فيما يطلق عليه عملية "الجدار الواقي" في 29 آذار 2000م. أطل وجه الاحتلال البشع من جديد "واضحاً ملامحه المشبعة بالكراهية والرغبات المريضة في الذبح، وستتوقف صورة "محمد الدرة" و"فارس عودة" على الشاشات". (ص110)

ليرى الجميع من أم الولد مروراً بالمشاهدين والمؤسسات وممثل الأمم المتحدة الجريمة واضحة، ولا أحد يهتم ويكترث، حيث ترك الشعب الفلسطيني الأعزل ليواجه آلة الحرب الصهيونية وحيداً، ويقتل السكان المدنيين على شاشات التلفاز، حتى أنك تستطيع سماع "آخر تأوهاتهم أو وصاياهم أو أن تلتقط نظراتهم الأخيرة إلى العالم". (ص110)وفي أيام قليلة صارت رام الله خراباً، فالجرافات الاحتلالية كانت تهدم كل شيء في طريقها حتى شارات المرور، لا لشيء إلا رغبة مريضة في التدمير.

وفي شوارع المدينة انتشر بعض الشباب الفلسطيني مسلحين بالكلاشينكوف لمقاومة قوة عسكرية جبارة، وكانوا واعين لاستحالة صد الهجوم إلا أنهم يملكون "الرغبة الجارحة في المقاومة وثقل الشجاعة جعلهم يخرجون في مجموعات صغيرة موزعة في شوارع المدينة". (36)

عالم لا يرحم ولا يقدس سوى القوة، وتحاصر الدبابات والمدرعات الرئيس الفلسطيني في مقاطعته والعالم يتفرج، وتعلن إسرائيل أن عرفات هدفها والعالم يطأطئ الرأس بالموافقة، وبقي عرفات وحيداً يطلق صرخات النصر والحرية بثقة وإيمان عميق حتى استشهد في 2004م.
تتحطم حياة الناس في الضفة الغربية، ويعيشون في ظل واقع مزرٍ، فهذه أمل حبيبة سليم، تأتي إلى الشؤون الاجتماعية باحثة عن معونة ضمن برنامج "أفقر الفقراء" وبعد أن كانت تضج حيوية وعنفوانا، وأنوثة طاغية وشفتين مكتنزتين بالشهوات، تأتي مع أربعة أطفال "ترتدي جلبابا طويلا أسود ومنديلا أبيض، ناصع البياض. عينان واسعتان ومطفأتان". (ص33)

وتذكر غسان صفاتها التي أغدقها عليها صديقه سليم، لكنها الآن مع أطفال ومأساة و"لا شيء يوحي أنها ذات البنت الشهية والمتطلبة، وقد صارت سيدة الآن، تطلب معونة شهرية". (ص34)
أمل عاشقة نبتة قرن الغزال، أبعدها الاحتلال عن المتنفس الوحيد لها وأطفالها، فحديقة قرن الغزال عند طرف السهل القريب من بيتهم أصبحت بعيدة، بعد أن انتصب الجدار العازل الذي بنته إسرائيل، وكذلك أخذت تلال الزيتون تبتعد و"ظل الإسمنت القبيح يجرح الأرض، بترابها وحجارتها وزيتونها". (ص94)فما كان من أمل إلا أن زرعت نبتتين من قرن الغزال خلف غرفتها ورعتهما بأصابعها الطويلة وأدعيتها، وبقيت تدير شؤونها بصمت.

غسان مستمر في ارتباكاته موزعاً بين حياته في سنوات طفولته في المخيم، وبين سفره ودراسته في موسكو، وعودته وعمله في وزارة الشؤون الاجتماعية، ذكريات مؤلمة ومتفرقة وصور لوجوه لا تغيب، واجتياح جعل حياته دون معنى أو لون. وآمال وأحلام تلاشت وانهارت، وشعر بحالة من الخوف الشديد، وتسأل: "أيعقل أنه لم يعش حياته أبدا!! أمضى كل هذه السنوات يترقب ما لا يحدث وما لا يجيء!!". (ص124)


الهروب إلى أحضان النساء:
شاهد إليزابيل بداية في كافتيريا الجامعة، ثم تعرف إليها في إحدى الحفلات. فتاة تشيلية ثائرة، اختفى والدها أيام حكم بيونيشيه في السبعينيات وهي طفلة صغيرة. وتأخذ لب غسان، ويقع في جمالها الأخاذ، ويصفها بأنها "أشد فتنة من أن تصنف. كانت شفتاها هما جواز سفرها إلى العالم، شفتان حارقتان ومعجونتان بماء نباتات برية وزهور بيتية وروائح حدائق سماوية، مشدودتان ورخوتان، آثمتان وصائمتان، متطلبتان وزاهدتان". (ص55) ولا تملك إلا أن تكون رجلا مرتجا أمام حلاوة شفتيها. وهي تدرس الطب، وينجح غسان في إقامة علاقة جنسية معها، ويحس أنه "ليس فما ما ذاق تلك الليلية، ولا أطعمته لعابا انسانيا كان يشف ويسيل ويشف". (ص60)

وبعد فترة وهو غارق في عالم اللذة الجسدية، ستخبره إليزابيل أن علاقتهما يجب أن تنتهي، معللة ذلك بقولها له: "أنت لا تحبني، أنت تحب أن تنام معي. صدقني هذا هو كل ما في الأمر، وأنا تعبت، تعبت من الطلب منك دائما أن تهتم للتفاصيل الأخرى، أن تهتم بي، أمنياتي أن تسألني عن كلية الطب، عن أمي...". (ص62)
إذن تكتشف إليزابيل أن غسان يبحث عن الهرب إلى جسدها من أشياء تؤرقه، ولا يصل للتوافق مع روحها، وعندما تدخل مريم اللبنانية اليسارية في حياة غسان، تشده إليها وتتملكه الرغبة في قضاء وقت طويل معها يتسكعان بعد الدوام الجامعي.سترحل إليزابيل فجأة، وستبلغه ببساطة أنها لم تعد تستطيع الاستمرار في علاقتها معه، وسترجع إلى تشيلي وستقف إلى جانب الفقراء هناك وتعالجهم مجانا.
وغسان يدخل إلى عالم مريم وهو عالم كان مستعدا له منذ زمن.

ويقول عن مريم وهي غافية على سريره إنه "رآها حدائق وبساتين وكروماً من تفاح وعنب ومخابئ عسل وسهولاً وقمحاً". (ص86) يراها وطنه المفقود، لذا كان يحتفظ بكل ما تتركه له من قصاصات ورقية، وكأنه يشيّد ماضياً سيعود له لاحقاً، وكان إحساس دائم يراوده "أن ما يحدث الآن هو ماض يطل عليه، باعتباره ماضياً مؤجلاً". (ص81) وفي خلافه مع مريم الذي اشتد نتيجة عيش غسان في الماضي، تقول له: "أنا بحب أعيش في الواقع، في الآن وأنظر للمستقبل، أنت تحب الماضي، رجل ماضوي يعني، الأمور هيك ما بتركب على بعض". (ص81) لا يستطيع غسان الفرار من ماضيه، ولا من المكان الذي قدم منه، رغم محاولاته النسيان والتوغل في اللذة الحسية.

ستتركه مريم أيضاً، وتهاجر إلى كندا، وستبقى على تواصل من طرف واحد مع غسان، حيث ستداوم على إرسال الرسائل له، وهو يتلقى الرسائل ولا يرد. وفي النهاية، وعندما ينزل العجوز عن الجسر المهترئ، مستنداً إلى عصا الذكريات، يملؤه الندم، وقبل الدخول إلى شقته، يسأل نفسه: "لماذا تركت مريم تذهب؟" ولم يجد جواباً، وانتابه قلق وحزن مرير، "أراد أن يساعده أحد ما، أن يعيد ما يستطيع ترميمه من خراب خلفه، دون أن يعي ذلك". (ص123) أراد أن يبحث عن مريم، وعن إليزابيل أيضاً.

شعر بالحنين لسماع صوت مريم الآسر، أراد "أن يشم الحروف المقاتلة على البيانات التي لطالما احتفظت حقيبتها بها". (ص123) فطن أن سنوات عمره قد فرت منه دون أن يحياها أو يتأمل بها، فكان عجولاً يراقب مرور الأشياء، كان معطلا عن الفعل، و"انتابته حالة خوف شديد، حتى كاد يرتجف، أيعقل أنه لم يعش حياته أبداً!! أنه أمضى كل هذه السنوات يترقب ما لا يحدث وما لا يجيء!!". (ص124) وطوال الرواية، سيبقى غسان حائراً مع أسئلة عالقة ودون إجابة، "تتدلى أمامه مثل مشانق كئيبة". (ص124)


الكشف عن الحقيقة:
الرواية منذ البداية تشد القارئ لمعرفة تكوين شخصية غسان نصار، إلا أن القارئ يفشل في ذلك، ونكتشف في النهاية أن غسان نفسه وحسب قول شقيقه "كان خجولاً، مرتبكاً دائماً. ولم يكن يعرف حتى وفاته المفاجئة، حين سقط قلبه قبل أن يصل درجات العائلة، ماذا يريد بالضبط". (ص133)
انتمى للحزب الشيوعي الفلسطيني، ويبدو أن ذلك لم يكن إلا لأنه التنظيم الوحيد الذي كان في المخيم.
وفي أوراقه التي تحاول العائلة نشرها بمساعدة شخص مهتم بالأدب، نجد إحداها تتحدث عن العلاقة الجنسية مع مريم، والتي تقول فيها مريم لغسان: "بصراحة، ودون غضب، أنا لا أستمتع معك جنسيا، أنا أحبك، ولأني أحترمك أقول ذلك، أنت عجول لدرجة تثير استفزازي، وتتركني في حالة رثة، حتى صرت أتملص من محاولاتك النوم معي". (ص137).

وفي إحدى الأوراق يصف غسان نفسه بأنه "لا يعدو أن يكون جبانا، لأنه لم يستطع أن يتخذ قرارات في مختلف مراحل حياته. وأنه يعيش على هامش الحياة، ويدّعي أكثر مما تحتمله الحقيقة. ويصر على أن يسمي نفسه عجوزا". (ص136). أما رأي محمد صديق غسان المقيم في رام الله فيه، فيقول: الجلوس مع غسان يشعرك بالمتعة، فأنت "تستمع إلى حكايات وأساطير وخرافات وأحلام كلها في النهاية لا تتحقق... وهو كان مليئا بأحلام خاسرة بالضرورة". (ص140)

يقول الراوي إن غسان لو طلب منه إعادة ترتيب ذكرياته حسب التسلسل الزمني لعجز عن ذلك، فهو "لم يتعرف إلى شخصيته بالشكل المطلوب. شخصيته كانت تتشكل وتتفكك، وتعيد تركيب نفسها في مختلف مراحل حياته. لا فواصل واضحة بين الطفولة والشباب. كانت تتنازعه مشاعر لا علاقة لها بالزمن، بل بالمكان". (ص14) ويقول غسان في أوراقه عن الموت الذي أحاط به بموت والده وأصدقائه العبثي "ليس ثمة من فعل آخر هنا، الموت والحياة لصيقان". (ص141)
وأوراقه تتحدث بشكل غير منظم عن الحرب والأفكار واللذة الجسدية، ففي إحدى الأوراق يتحدث عن امرأة فاسقة تدخل الرجال إلى بيتها عنوة مستعينة بالخيال، وكانت "عندما يستعدون للولوج أذكرهم بأخواتهم وأمهاتهم وزوجاتهم، فينتفضون. أحب أن أعلقهم على مشاجب الوهم، الذين تركوا الخندق إلى السرير، عطلتهم عن إطلاق النار، بللت أسلحتهم". (ص141) في النهاية نحن إزاء شخصية معقدة ومركبة، تختلط فيها ذكريات اللذة والمتعة الجنسية مع دبابات الميركافا، مع أحلام لا تتحقق، بل تتشوه.. .وثورات الشعوب العربية التي ما زالت طريقها ومعالمها لم تتضح بعد.

غسان صاحب شخصية غير واضحة المعالم ومريم الأكثر تعقيدا وثورات عربية يختلط فيها الثائر مع المستعمر القديم الجديد، فكيف يمكن لنا الخروج من دوامة الأسئلة التي نقف عاجزين وعقيمين عن الإجابة عليها؟ الرواية تتناول أسئلة عميقة وجوهرية، أسئلة تتعلق بألم الإنسان وأوجاعه وأحلامه وإخفاقاته وأفكاره وعلاقاته وتظل دون إجابة.  غير أن صعود غسان على الجسر قد تكون محاولة من أجل الخروج من حياة مليئة بالإخفاقات وخلق حياة جديدة، وموته المفاجئ على أولى درجات بيت العائلة، يوحي لنا أن هناك ما زال أملاً بالصعود في حياتنا إلى الأعلى شرط التخلص من الاحتلال البغيض قاتل الحلم والفرح، ليستطيع الإنسان الفلسطيني أن يعيش حياته الطبيعية، ويبني نفسه.
ففي النهاية الحياة تستحق أن تعاش كما يرغب الإنسان لا أن تكتب أو تقرأ.

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك