الخوف من الثورة الرقمية الجديدة

 

علي بن سالم كفيتان

alikafetan@gmail.com

ينتابُ الحاضرون شعورٌ مريعٌ من القادم المجهول، والجميع يبحثُ عن الأساليب الناجعة لاتِّقاء الشر القادم من كلِّ حدب، وما يُدهش الحاضر لمثل هذه الملتقيات هو رُوح الانكفاء على الذات، ووصف التطور الرقمي بأنه أداة لتدمير قيم ومبادئ الشعوب، عبر التدخل في خصوصيتهم؛ ففي الوقت الذي تنفتح فيه السماوات لكل شخص على هذا الكوكب بحيث يستطيع التعبير عما في دواخل نفسه من جمال أو قبح أو أنانية أو غير ذلك، ما زلنا نبحث عبثاً لحجب أنفسنا عن البشرية بأساليب لن تُجدي نفعاً أمام الثورة الرقمية الجديدة.

وكما درجت العادة، أخذت جريدة "الرؤية" زمامَ المبادرة، فنظَّمت باقتدار الدورة الثانية من "ملتقى الإعلام الجديد والعصر الرقمي"، في عاصمة المصايف العربية مدينة صلالة، الحالمة تحت زخات الرذاذ، وبين الروابي المكتسية بلون الجنة.

ما يُثلج الصدر وسط هذا الزحام من الخوف هو وجود شباب في بعض مفاصل المسؤولية تمَّت دعوتهم، وتحدثوا بثقة، واستطاعوا طَمْأنة الحرس القديم بأنَّ الأمر هو فاتح خير، وليس كما يعتقدون، ورغم وجود اختلاف عميق في وجهات النظر على مِنضدة النقاش الأولى والثانية للملتقى، فإنَّ المتوجسين بدأوا بمُراجعة حساباتهم بعد أن تأكدوا أن الحجب الإلكتروني بات أمراً عبثيًّا؛ فقد بيَّن أحمد جعبوب ورفاقه أنهم جاهزون للانفتاح، ولديهم من السبل الذهنية القدر الكافي للتعامل معه، وأكَّد هذا التوجُّه المتحدثون الأكاديميون رفيعو المستوي، الذين حضروا فعاليات الملتقى، فقدَّموا حصيلة تجاربهم للتعامل مع الثورة المعلوماتية الجديدة، وبيَّنوا أنَّ الإعلام العربي الحالي بعيد كل البعد عن المهنية والمصداقية؛ فهو إما بوق للسلطة، أو أداة لتزييف العقول أو تسويق الأفكار الرخيصة، ولم يعد له مكان في فضاء البشرية اليوم لأنَّ الخيارات باتت متاحة، والتنافسية أصبحت على أشدها في فضاءات الكون.

تبيَّن كذلك أن الدول والكيانات تسابقتْ على شراء الأدوات والمعدات؛ فتنافسوا لاقتناء الكاميرات وتحديث الأستديوهات الرقمية، وتعدد القنوات، للولوج إلى العالم الإعلامي الجديد، بينما ظلَّ المضمون خاوياً؛ فلا عجب أن تُشاهد البرامج المملة الخالية من أي فائدة تنقل على محطات التلفزة المختلفة، التي تمَّ ضخ الملايين لتشييدها؛ فعندما تَسَابق الركب لتحديث الحديد والخشب نَسُوا أن يقوموا ببناء الجيل الذي بإمكانه أن يُحرك تلك الأدوات، ويتعامل معها، وتمكينهم من تصدُّر المشهد الإعلامي. وإنه لمن الظلم أن يقوم من لا يُمكنه عمل فورمات لتفكيره نظراً لتقادم النسخة التي لديه على تسيير هذه المنظومة الحديثة، متهمين الجيل الرقمي بأنهم ما زالوا مُراهقين إعلاميًّا، ولا يعون تداعيات المرحلة الحساسة التي تعيشها المنطقة.

كالعادة، انصبَّ الاهتمام على كلمة الغزو الرقمي، وهنا توجيه مباشر بأنَّ التطور البشري هو هجوم يجب اتقاؤه بكل السبل، متناسين أنَّ الثورة المعلوماتية يُمكنها اليوم أن تفتح الباب واسعاً لخير ورفاهية البشرية؛ فبإمكان الطبيب إجراء عمليات جراحية عبر الأثير الرقمي دون الحاجة لتجشُّم مشقات السفر وخسارة الكثير من الأموال، وبإمكان الثورة الرقمية الجديدة رفع إنتاج المحاصيل، وتوفير الغذاء لملايين البشر الذين يقضون سنويًّا بسبب الجوع، وبإمكان الثورة الرقمية كشف ظلم الساسة، وتسلطهم، واستغلال موارد أوطانهم...إلخ.

قبل الختام، أذكِّركم بأنَّ الهاتف المحمول ضخم الجثة الذي ظَهر في آخر الثمانينات، اتُّهم بأنه سيخرب القيم، وأنه أداة للتجسس على الشعوب، ومن ثم ظهر جهاز البليب المحمول الأقرب شبهاً بالمنبه، ومن ثمَّ الهاتف اليدوي الخالي من الوسائط، فشكَّل ظاهرة غير مسبوقة، وتنافس الجميع على اقتنائه، ثم أدخلت الوسائط وفتحت السماوات المغلقة، فتسابقت الشعوب الذكية لتطوير ذكائها، بينما ظلت الشعوب الغبية تطور أساليب دفاعية أشد غباءً.

تمنيتُ أن تختفي بعض المظاهر الرسمية في مثل هذه الملتقيات، وهنا لا أجد بُدًّا من تقديم تقديري لسعادة وكيل وزارة الإعلام، فللعام الثاني يتجرَّد من خِنجره بعد طقوس الجلسة الافتتاحية، ويجلس في الخلف بين العامة، مُنصتاً بحذر مع قلمه ومذكرته التي يُسجل فيها ملاحظاته، ومختلطاً بالصغير والكبير أثناء فترات الاستراحة بين الجلسات؛ فعظيم امتنانا لسعادتكم، ونتمنى أن تنتقل هذه الممارسة الحميدة إلى جميع مسؤولينا.