" حبس الدّمّ " لنضال الصالح من التوازي الحكائي إلى تعدّد الساردين (2- 3)

...
...
...


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

ثالثاً ـ بريد إلكتروني:
تقوم حكاية (بريد إلكتروني) على مجموعة من الرسائل المتبادلة بين أصدقاء يجمعهم فضاء حلب المكاني، وتمنعهم الحواجز العسكرية والرصاصات الطائشة من اللقاءات الطبيعية، وتوزعهم جغرافية حلب حسب سخونتها. وتتركز الحكاية هنا على تبيين معاناة أهل حلب في ظلّ "الثورة" التي تسعى إلى إسقاط النظام السياسي والدولة والمؤسسات مهما بلغت الأثمان، وتحتفي هذه الحكاية بالتغيرات التي حصلت للشخصيات التي تبادلت الرسائل، وتمضي دون التواءات حادة؛ إذ تتحدث عن انهماك شخصيتين بكتابة روايتين (أحدهما يكتب عن العلامة خير الدين الأسدي، والآخر عن أسطورة الطرب الحلبي صبري المدلّل)، إلى أن تتأزم مع رغبة غسان في زيارة أمه في باب الأحمر، بما تحمله من خطورة على حياته، وقد حملت هذه الذروةَ الحكائية المهمة رسالةٌ يرسلها د. عدنان إلى أبي لجين، يخبره فيها عن إصرار غسان على زيارة أمه التي كانت قد قالت لغسان "بتطلع روحي وما بطلع من البيت"، ص ص164ـ165. وذكّرته بوصية والده: "البيت إلا البيت يا فطينة، لا تتركي أحداً من الأولاد يبيعه، ولا تتركيه إلا إلى عندي في الآخرة"، ص165. وكالعادة تأتي هذه الذروة الحكائية معضودة بالمرفقات التي تتحدث عن تاريخ باب الأحمر، ثم عن خطورة الذهاب إليه، بما يخدم الحكاية.
وإذا كان "غسان الذي ذهب إلى باب الأحمرليطمئنّ عن أمه، ولم يعد"، ص195، وإذا كان فاضل الذي لم يكمل روايته عن الأسدي قد "مات قهراً قبل أن يموت حقيقة خلال العملية الجراحية التي أجريت له بسبب نزف دماغي حاد"، ص195؛ فإن نهاية الحكاية ذات المآلات السوداء انتصرت على سوداويتها، بطريقة إنشائية لا حكائية، تجلّت في (رسالة لم تصل)، وفي سياقها النهائي تحديداً؛ حيث ينفتح ذلك السواد على نافذة الأمل:
"انهضي؛ لتعودي حلب التي اختارت لنفسها حاء الحب والحُسن والحنطة والحياة، ولام اللحظ واللجين وواللغات وباء البرق والبشر والبلاغة والبسملات.
انهضي؛ فأنهضُ، وتبزغ شمس الحياة"، ص198.
إنّ حكاية "بريد إلكتروني" التي تتداخل مع حكاية (مقبرة الصالحين) و(قبض ريح) تداخلاً بنائياً، يقوم على ثنائيتي الاتصال والانفصال، تهتم أكثر من الحكايتين الأخريين بمعاناة أهل حلب في ظل الأوضاع الحالية، وقد تبدّت هذه المعاناة من خلال المواقف الحكائية التي تمر في حيوات الشخصيات، وفي المرفقات التي يستعين بها النص، ففي موقف حكائي يسأل الساردُ غسانَ (أبا زياد) عبر رسالة إلكترونية عن سبب الحزن المتسرب إلى لغته، معتذراً عن عدم تطويل رسالته "ولكن بعد قليل سيحين موعد إطفاء الأمبيرات، العبء الجديد علينا، على أهل حلب الذين لا يملك الكثير منهم ما يكفي ثمناً للطعام"، ص25، بسبب حصار حلب الذي  كان أكثر بطشاً من الزلازل التي أصابتها، محيلاً غسانَ إلى ملف مرفق يؤرخ من مخطوطة للمطران بوليس آروتين لزلزال كبير ضرب حلب في 13 آب (أغسطس) 1822، تبعته زلازل أخرى في 14 و15 و31 من الشهر نفسه، وزلزالان آخران في 4 و5 أيلول (سبتمبر). وخلّفت هذه الزلازل الستة المتوالية مع توابعها مقتلة عظيمة في أهل حلب وجوعاً شديداً بين من بقي من الأحياء ودماراً هائلاً في البنيان الحلبي.
وفي رسالة إلكترونية أخرى يعود السياق إلى الإلماح إلى مشكلة الكهرباء، وإلى تجار الأمبيرات الذين يتاجرون بمعاناة الناس، ومنها:
"أبا لجين العزيز.. صباح الخير أو مساء الخير، حسب توقيت تلقّيك هذه الرسالة، بسبب ربّة الحسن والجمال، الكهرباء"، ص123، فيما تشير إحدى المقتبسات المنقولة عن صحيفة الحياة إلى معاناة أهالي حلب المقسومة إلى شطرين يفصل بينهما معبر بستان القصر: حلب النظام وحلب المعارضة؛ حيث انقسم الأهالي إلى ثلاثة أقسام منهم "الشجعان المخاطرون بحياتهم للمرور من ذلك المعبر من أجل ربطة خبز أو كيلو بندورة"، ص19. كلّ ذلك إضافة إلى أدوات الموت التي تهدّد الحلبيين من تفجيرات وقذائف طائشة، ورصاص متبادل بين المسلحين، لا يستثني المارة.
وتحتفي حكاية (بريد إلكتروني) بطرح القضايا السياسية والفكرية والثقافية بشكل لافت، وإن كنا نجد مثل هذه القضايا مبثوثة في (قبض ريح) بشكل أقلّ. ومن أهم القضايا المطروحة المتعلقة بما يحدث في سورية الانتقالات الفكرية المفاجئة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن (حضن النظام) إلى معارضته الشرسة، ومن ذلك ما ينقله فاضل لغسان في إحدى الرسائل عن (الرفيقة الشيوعية) الدكتورة وصال يعقوب التي انضمت للثورة، وصارت تسعف (الثائرين)، واستبدلت بلغتها لغة (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ودعت د. فاضل أن يكون "وفياً لمبادئه"، وأن يلتحق بالثورة، وانتهت بها الحال إلى ألمانيا؛ لتعيش على إعانات ميركل.
وفي رسالة من غسان إلى فاضل ثمة مثال آخر على تلك الانتقالات العجيبة التي أصابت أحد كتبة التقارير الأمنية: "خذ يا صديقي هذا الخبر الذي سمعته اليوم عن صاحبك الكاتب الكبير من بعض رواد المقهى الذي كما كان بارعاً في كتابة أشياء أخرى غير الكتابة، كان بارعاً أيضاً في الاعتذارعن الظهور على القنوات الفضائية الرسمية، وعن الإدلاء بأي رأي حول ما يجري في البلد، تقديراً منه بأن أيّ ظهور إعلامي على تلك الفضائيات سيحسب عليه انحيازاً للنظام، على الرغم من أنه أمضى حياته كلها على موائد النظام"، ص100.
كما يشير هذا النص الحكائي إلى مجموعة من المواقف التي تفضح تلك الذئاب التي "تدفقت على حلب باسم الجهاد وشهوة الحوريات"، ص196، وأولئك الذين "أرسلوا عشرات الأطنان من آلات القتل والدمار، والمال إثر المال، لننعم بالموت، والموت، والموت"، ص196، ونهبوا آثار حلب إلى تركيا، وفقاً لما ينقله د. نضال عن وكالة الأناضول: "في السابع والعشرين من نيسان ألفين وثلاث عشرة انهارات مئذنة الجامع الأموي الكبيربالكامل، وفي الثالث عشر من أيار من السنة نفسها، قامت كتيبة عمر بن عبد العزيز بجمع ما تبقّ سالماً من مخطوطات المكتبة الوقفية، وما تبقى أيضاً من كتب في المدرسة الشعبانية في حي الفرافرة، ومن ثم تفكيك منبر الجامع، ونقلتها جميعاً إلى مستودعات مجلس محافظة حلب الحرة في المدينة الصناعية، ومنها إلى تركيا"، ص ص126ـ127.
ويطرح د. فاضل مجموعة من الأسئلة عن ماهية تلك الثورة التي أكلت الأخضر واليابس، فيتساءل في بريد ألكتروني إلى غسان:
•    ـ "أي ثورة هذه التي تطار شخصاً مثلي، لأنني قلت ثلاث كلمات لا أكثر في محاضرة لي في الجامعة: إنني ضد السلاح"، ص ص151_152.
•    ـ "أي ثورة تلك التي تمطر رؤوس المدنيين بما تسميه قذائف جهنم؟ وترغم كل من لا يصفق لها على مغادرة البيت الذي يسكنه للنجاة بنفسه وأسرته من الاختطاف أو الاعتقال أو طلب فدية أو التصفية الجسدية"، ص152.
•    ـ "ثورة تموّلها دول أدمنت استعباد الشعوب واستعمار أوطانهم"، ص152.
ولا تنحصر القضايا المطروحة في هذه الحكاية على الثورة وثوارها، بل تطال قضايا ذات صبغة ثقافية، على نحو ما نجد في السياقين التاليين:
•    "ـ انظر يا دكتور إلى هذا النهر المتدفق من البشر.
وما إن استدرت برأسي جهة الشارع حتى أضاف:
ـ كم بين هؤلاء الناس من سمع بالأسدي؟"، ص59.
•    "وضعتني روايتك أمام سؤال كبير، هو: إلى متى سيظلّ النقد عندنا مؤرّقاً بالمكرّس، ويدير الظهر لمن نصّه أكثر قابلية للبقاء في ذاكرة الإبداع؟"، ص ص79ـ80.
ويمكن في أثناء طرحنا لقضايا حكاية (بريد إلكتروني) أن نشير إلى اهتمام مؤلف الرواية بالقارئ؛ إذ يترك له مساحات واسعة، ومرهقة أحياناً، للتفكير، ويحرّضه على البحث والمقارنة، فهو ينقل من كتاب راغب الطباخ "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" عن أفعال تيمورلنك في حلب ما يلي: "وكان قد احتمى بالمزارات والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال، فدخلوا إليهم وأسروهم، وقرنوهم بالحبال، وأسرفوا في قتل النساء والرجال، وصارت الأبكار تفتضّ في المساجد"، ص ص98ـ99. وفي المنقول السابق دعوة غير معلنة للمقارنة بين ما فعله جنود تيمورلنك وما فعله أصحاب جهاد النكاح. وثمة منقول آخر، ونحن هنا نمثّل ولا نحصي، يسعى إلى غرس الأمل في نفوس الحلبيين، والمظلومين عامة؛ إذ نقرأ ما قاله ابن بطوطة عن حلب في "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: "هذه حلب. كم أدخلت ملوكها في خبر كان، ونسخت ظرف الزمان بالمكان"، ص102. وكأنّ المؤلف يريد أن يقول لنا: إنّ حلب ستنسخ مرة أخرى ظرف الزمان بالمكان.
رابعاً ـ قبض ريح: سيرة شبه ذاتية:
في المقاطع السردية المسمّاة (قبض ريح) التي تشغل مساحتها ثلاثة عشر فصلاً، بخلاف المقاطع الأخرى التي يحتلّ كل عنوان منها عشرين فصلاً، يقدّم السارد المحطات الأساسية في حياة الأسدي، حتى وفاته، وما دام السارد متخيّلاً فإنه يمكن أن يكتب حتى حادثة وفاته نفسها:
"ها أنذا الآن أرى عزرائيل يدخل الغرفة، يمسك بي محنياً على الأوراق أمامي، وأنا أكتب، ها أنذا الآن أسأل: أي معنى للحياة؟أي معنى؟ أفليست كما وصفتُ في "أغاني القبة" أنّ كل ما فيها قبض ريح؟"، ص128.
وقد تحدّث السارد في هذه المقاطع عن حياة الأسدي المبكرة، وعن خلافات أبيه وأمه، وعن قضايا يتداخل فيها الشخصي بالعام، على نحو ما نجد في المقطع التالي الذي يتحدث عن سرقة آثار سورية على يد الفرنسيين، شأنهم في ذلك شأن عثمانيي هذه الأيام:
"وغالباً ما كنت في طريقي من البيت وإليه، أقف أمام جامع القيقان، وأمعن النظر في الحجر الذي يعلوا مدخله، وفيه كتابة بالهيروغليفية، وذات صباح ليل ماطر لم أجد الحجر، فطرقت باب البيت المجاور للجامع، وسألته عن الحجر، فقال إنه خاف عليه من اسرقة في تلك الليلة الماطرة، فخبأه في البيت، ومنذ ذلك اليوم لم أعد أرى الحجر إلى أن علمتُ بعد وقت أنه لدى المندوب الفرنسي الذي سرعان ما أرسله إلى فرنسة"، ص13.
ومن محطات الحياة الطريفة التي يسردها سارد السيرة شبه الذاتية ما ورد عن إصابة يد الأسدي اليسرى بحروق بالبارود في يفاعته خلال عرض مسرحي عام 1923، حيث تم بتر كفه لاحقاً بلا تخدير، إثر سوء علاجها. ولا يفوّت المؤلف هذه الفرصة، كي يذكر بما كتبه الأسدي (الحقيقي) عن حادثة قطع كفه في (حلب، الجانب اللغوي من الكلمة)، وما كتبه الشاعر محمد عارف الرفاعي عن الحادثة، ومنه البيتان التاليان:
لقد بتر البارود كفّاً بناره // فلله من كفٍّ هناك يُقَطّعُ
ولله من كفٍّ وقد كفّ ضرّهُ // لأوطانه يُسدي الجميلَ ويصنعُ
(يتبع...)

 

تعليق عبر الفيس بوك