د. صالح الفهدي
لا زلنا نمجد الفرد الذي "يحفظ عن ظهر قلب"، أما الذي يفهم عن ظهر قلب فلا يستحق منا التفاتة، واهتماما يضاهيان قدر الأول...! بل إن من يسأل ويستفسر يوصم بكثرة الهرج، أما الذي يحاول إيجاد التفسيرات لظاهر الأمور، فيزدرى، ويطلق عليه "متفلسف"، وكأنما الفلسفة من العلوم المستقبحة...! ناهيكم عن الزراية بمن يركن إلى العقل للتفكير في أمور تستوجب النظر فيها، لأنه لا يريد أن يسلم بما يمكن للعقل أن يناقشه، ويقلب عين البصيرة فيه...!
ولم يفت على المستشار دانلوب الذي استقدمه اللورد كرومر المندوب السامي في (17 مارس 1897) إبان الاحتلال الإنجليزي لمصر، من أجل تغيير مسار التعليم، لم يفت عليه أن ينتبه إلى جعل مفهوم "الحفظ عن ظهر قلب" ممجدا، ومقدسا على عكس المدارس في إنجلترا التي كانت –ولازالت- تشجع على الابتكار، والإبداع، وتحث على حب الاطلاع..!
والمفهوم الذي سعى لتكريسه دانلوب يكبح العقل عن التفكير والتخيل، والنفس عن التبصر، ازداد رسوخا في بقية الدول العربية "ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمرا على ما أرادوه" كما يؤكد محمود محمد شاكر، مؤلف كتاب "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".
إن مفهوم اعتبار العقل مجرد خزان للمعلومات النافعة وغير النافعة، هو مفهوم عطل نشاط العقل، وأعاق مهمة خلاياه، وبدد طاقتها الهائلة سدى، ولقد وصف باولو فريري (1921-1997) هذا النوع من التعليم بـ "التعليم البنكي" الذي يتجلى من خلال عشر سلوكيات وطبائع تحكم البيئة التعليمية على النحو الآتي: الأستاذ يعلم والطلبة يتلقون، الأستاذ يعرف كل شيء والطلاب لا يعرفون أي شيء، الأستاذ يفكر والطالب لا يفكر، الأستاذ يتكلم والطالب يستمع، الأستاذ ينظم والطالب لا ينظم، الأستاذ يختار ويفرض اختياره والطالب يذعن، الأستاذ يتصرف والطالب يعيش في وهم التصرف من خلال عمل الأستاذ، الأستاذ يختار البرنامج والمحتوى والطالب يتأقلم مع الاختيار، الأستاذ يرتب المعرفة ويتدخل فيها ويحول دون الطلاب ودون ممارستهم لحريتهم، الأستاذ قوام العملية التعليمية والطالب نتيجتها.
ما التعليم إن لم ينصف العقل، ويجل قدره، ويعلي منزلته، عبر إفساح المجال له للتفكير، والتخيل، والتأمل والتعليل، إلا إهدار لعمر الإنسان الذي ينشد النمو عبر المعرفة. ما التعليم إن لم يضع الإنسان في مواجهة قضاياه ليتدبر في علاجاتها، فيفشل تارة فيما يمكن أن يعتبرها "تجربة" قادته إلى نجاح كما قال أديسون في خوضه عشرة آلاف تجربة نحو اكتشاف المصباح الكهربائي.
إن اعتبار العقل مجرد خزان يحشى بمعادلات، ونظريات، ومعلومات من هنا وهناك، ثم يمتحن فيها لا من أجل أن يصنع شيئا مبتكرا مما ألقي فيه، وإنما لكي يعيد البضاعة كما هي إلى وسطائها ليقارنوها بالمقرر في المنهج الدراسي، مقارنة المزود الذي تعاد إليه بضاعته فيقارنها بالقوائم التي لديه..!!
ومن نافلة القول بأن عصر الذكاء الاصطناعي لا يعترف بالمفهوم السائد عندنا؛ مفهوم "التعليم البنكي" الذي يمجد "الحفظ عن ظهر قلب" لأن هذا المفهوم لا يتماشى مع النشاط الإبداعي للعقل الإنساني منذ ان انتصر (الحاسوب ديب بلو) على بطل العام في الشطرنج غاري كاسباروف عام 1997 فأثار بذلك ضجة عارمة في أنحاء العالم حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي..!
وفي حين يتبارى العالم المتقدم على حث العقل الإنساني على الإبداع والابتكار، وجعل المدارس، والمؤسسات التعليمية محاضن للاختراع، ومصانع لإنتاج المعرفة، ومراكز لرسم التوجهات المستقبلية، نصر نحن على حشو الدماغ الإنساني بما نشاء –لا بما يشاء- من المعلومات المتوائمة وغير المتوائمة مع الواقع، المتوافقة وغير المتوافقة مع التطور.
لا يمكن لأية تنمية شاملة أن تقوم دون تعليم يأخذ في اعتباره تطوير وإعداد القدرات والإمكانات لرأس المال البشري، بيد أن جوهر التعليم المنشود هو تعزيز الوعي الإنساني، وامتلاك الإنسان القدرة على التغيير، وتطويره النمو المعرفي للفرد، ولن يتم ذلك إلا باحترام العقل عبر إمداده بالوسائل التي تمكنه من البحث، والاطلاع، وتمكينه من الأدوات التي تساعده على التحليل والتعليل، وتزويده بالأدوات التي تعينه على السبر والاستقصاء.
وما لم يمنح العقل الإنساني مساحة من الإبداع والابتكار، وحافزا للتفكير والتأمل، فلن نتوقع من هذا العقل أن يكون منتجا في عصر العولمة، ومساهما في اقتصاد المعرفة، ومشاركا في عصر الذكاء الاصطناعي، بل أنه سيظل "كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير"(76/النحل).
إن تغيير مفهوم "التعليم البنكي" الذي جاء نتيجة "الحفظ عن ظهر قلب" يتطلب تغيير المنهجية التعليمية النمطية التي تقف حجر عثرة في كثير من مذاهبها وتوجهاتها، الأمر الذي يحتاج إلى إرادة عتيدة، ورغبة أكيدة، وسياسة وطيدة، وخطة مديدة.