دلالة الموت في الأدب العربي.. علي السباعي ودخيل الخليفة أنموذجا

 

أمين دراوشة | ناقد وأديب فلسطيني

يعيش العالم العربي في ظروف مأساوية للغاية، يراد له من خلالها أن يسير في دهاليز الظلام، وأنتجت امطاراً من الألم والبؤس واليأس والتيه والدمار. وفي ظل هذه المحنة العظيمة كان لا بدَّ من الكلمة الصادقة والواعية التي تنظر إلى المستقبل، وتحاول أن تبقي جذوة الأمل مستمرة. والآمال على المبدعين لينتشلوا الشعب العربي من هاوية القلق والخوف والرعب والإحباط إلى طريق المحبة والسلام والطمأنينة.

إنَّ شعر الشاعر خليفة يعبر عما يختلج بنفسه، وهو انعكاس لما يشغله، ويثير عواطفه وانفعالاته، كما يترجم هموم الإنسان وأحلامه، ويحاول أن ينثر حبيبات الأمل في عالم حالك السواد لتنبت أزهاراً قادرة على الصمود والمقاومة في وجه النكبات المتلاحقة.
أما القاص على السباعي في مشروعه القصصي، يبقى يحوم حول موضوعات بعينها: الكراهية والحب، الحرب والسلام، الحصار والحرية، اليأس والأمل.
وحتى نستطيع أن نفهم ما يجول في نفسه المضطربة والقلقة والثائرة، نأخذ ما أورده في آخر مجموعته "مسلّة الاحزان السومرية" تحت عنوان "حوار في مرآة الذات"، إن قصصه لا تخرج عن اللونين الأسود والأبيض، ويعلل ذلك بقوله:
إن "الإذلالُ اليومي، واليأس، والبؤس، والشقاءُ، والفقد، والترملُ، واليتم، والجوع، والقهر،...والتهجير، والذبح بحسب الهوية، وفظائع التفخيخ، وتضاؤل فرص النجاة، ودموع طفل يتيم، ... كلها أحزان سود . . . لونها أسود ... إنها ضمِن الوتر الأسود للقيثارِ، وابتسامة طفلة كلها أفراح بيض... لونهُا أبيض... إ نها ضمن الأوتار البيض للقيثارِ ". (1)
فلا يوجد بالعراق لون ثالث، وكأنه يقول إن العراق لوحة كبيرة سوداء يتخللها بعض النقط البيض. فهو يكتب عن واقع العراق الصعب، وعن حياة العراقيين القاسية التي يحوم حولها الموت والدمار والمنفى. يكتب على السباعي حتى يكون إنسانا حقيقيا، يستطيع أن يتعالى على الجراح والخسارات التي لا تنتهي.
إن زمان قصصه هو زمان حروب العراق التي لا تنتهي إلا لتبدأ، زمن الحصار والموت، ومكانها المدن العراقية التي تأن تحت وطأة القهر والخراب، فالمدن العراقية كأنها عروس "ترملت يوم زفافها ولبست السواد". (2)
إنَّ المدنية في مجتمعنا الإنساني المعاصر، تشكل ظاهرة مكانية عميقة، ففيها يعيش الإنسان، ويرتبط معها بعلاقة معقدة تؤثر فيه ويؤثر فيها، فهي ليست حدودًا جغرافية وحسب، بل هي مكان ذي وجهين كما يقول الناقد ياسين النصير، الأول يمثل الإطار الخارجي ويشمل الظواهر المادية المعيشية، أما الثاني فمتعلق بالجانب "الروحي العميق للمدنية الذي يجعلها مكاناً زمانياً، يثير بساكنيه إحساساً عميقاً بالمواطنة، والتماهي مع واقعه وماضيه، ومع هموم ساكنيه ومطامحهم". (3)
ويورد علي عبد المعطي في كتابه رأي موريس هاليفاكس في الزمان والمكان فهما "إطاران اجتماعيان للذاكرة، حيث يكونّان الإطار الذي تختزن فيه الذكريات الاجتماعية". (4) فهما الوعاء الذي يختزن التراث الحضاري ويحافظ عليه. فالمكان كيان اجتماعي، ويحتوي خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، فشأن المكان شأن أي نتاج اجتماعي آخر لذلك هو "يحمل جزءًا من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه. ومنذ القدم وحتى الوقت الحاضر كان المكان هو القرطاس المرئي والقريب الذي سجل الإنسان عليه ثقافته وفكره وفنونه، مخاوفه وآماله، وأسراره وكل ما يتصل به وما وصل إليه من ماضيه ليورثه إلى المستقبل". (5)
وفي مقدمة ترجمته لكتاب جماليات المكان، قال غالب هلسه إنه ونظراً لاهتمامه في مسألة المكانية في الأدب العربي لاحظ أن: "العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته". (6) إن إشكالية الإنسان في المكان "إشكالية وعي الذات بوجودها وإمكانياتها وحقوقها. وهي مشكلة وجودية". (7) وتبدو إشكالية معقدة ومركبة في حالة المبدع.
والقاص هنا لا يستكين، ولا ييأس من المحاولة، محاولة الثورة على الواقع المزري والدموي، ويقوده شغفه ببغداد والمدن العراقية للتساؤل إذا كان الأمر سينتهي إلى الضياع الأبدي، أم إن الشعب العراقي لا يتراخى كعادته في إطلاق ثورته، التي سوف تمسح الشقاء عن جبين مدنه العابقة بالتاريخ؟
إن ما وقع بين يدي من مجموعات شعرية وقصصية للكاتبين، كان الموت الثيمة الأساسية فيها، حيث أرخى طائر الحزن جناحية بين ثنايا القصائد والقصص غير أنَّ القلب الذي يخفق محبة أبى إلا أن يزرع الأمل رغم الانكسار، والفرح رغم الألم الطاغي، وأراد ان يخلق من الموت حياة.

معنى الموت:
لا شك أن قضية حياة الإنسان وخلقه، تستجلب قضية الموت، الذي هو فناء الجسد ومن ثم الحياة. فالموت هو أكبر الحوادث التي يمكن أن تقع لإنسان، فهو يحطم إيقاع الحياة المتسلسل والمتناسق، " بل إنه يوقف دورتها، ويجعلها تقف جامدة عند تاريخ يستحيل أن تتحرك بعده قيد أنملة". (8)
إن حقيقة الطبيعة الكونية هي الحياة والموت، وهذه الثنائية استولت على الذهن الإنساني، وأثارت الكثير من التساؤلات حول الموت، فما هو الموت؟ ولماذا نموت؟ وماذا بعد الموت؟
وتناول الفلاسفة منذ القدم قضية الموت، وتأملوا فيه بعمق لتفسير الظاهرة وهزيمة الخوف والقلق من التفكير فيه، وكذلك فعلت الديانات السماوية والأرضية.
والموت لغة يعني كما ورد في لسان العرب: "السكون، وكل ما سكن فقد مات، ويقال: مات الرجل، وهمد. وماتت النار موتًا، برد رمادها، وماتت الريح: ركدت وسكنت، ومات الماء بهذا المكان: إذا نشفته الأرض.  ويقال: استمات الرجل، إذا طاب نفسًا بالموت. ويقال المستميت الشجاع، الطالب للموت. واستمات الرجل: ذهب في طلب الشيء كل مذهب". (9)
ويقع الموت على كافة الكائنات، ويقع على القوة المادية المتجسدة بالجسد الإنساني، كما يمكن أن يكون للموت معنى معنوي، إذ يطلق على الفقر، والذل، والهرم... والموت قضية إشكالية، فهو الحد النهائي التي تبلغه الحياة، وأثارت التساؤلات حوله الكثير من الجدل، فالتفكير بالموت، وتصور الجسد وقد استحال تحت التراب "يجعل القلب يتراقص من الألم وكأن يدا قوية تلاعبه وتهزه، ويجعل الحياة الإنسانية مجرد وهم من الأوهام، مجرد شيء تافه". (10) لذا يحاول الإنسان الحق أن يترك أثرًا إيجابيًا بعد موته، لعله ينفعه في حياة ما بعد الموت.

البحث عن الأمل وسط الخراب:
ينظر وردزورث إلى الشعر أنه: "التعبير الخيالي لشعور عميق داخلي يكون موسيقى الأداء لأنه فيض عفوي للعواطف القوية تنساب للشاعر بهدوء". (11)
فهو يرى أن الشعر يعبر عن العاطفة الصادقة، والإحساس العميق. يتمتع به الشاعر لأن صوره تنساب إلى القلب بخفة، ويثير العواطف ويبهجها. أما كولرج فاعتبر الشعر: ""أسلوب" لإثارة العواطف للوصول إلى سرور آني يتخذ الجمال وسيطًا "لحقيقة". (12)
واستطاع الناقد الإنكليزي هازلت أن ينفذ إلى عمق الشعر بقوله أنه: "تعبير عن الانطباع الطبيعي، لرد فعل في حادثة، يثير بحيويته حركة لا شعورية في الخيال، والعاطفة، ويخلف بالانسجام تغييرًا في الطبيعة المعبرة عنه في اللغة والموسيقى". (13)  
إن الشعر الجيد في نظر العقاد هو: الذي يعبر به صاحبه عن نفسه أصدق تعبير، واعتبر الطبيعة الفنية هي مقياس الحكم على الشعراء، ويقصد بالطبيعة الفنية: "تلك الطبيعة التي تجعل من الشاعر جزءًا من حياته، أيا كانت هذه الحياة من الكبر أو الصغر ومن الثروة أو الفاقة ومن الألفة أو الشذوذ. وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئًا واحدًا لا ينفصل فيه الإنسان الحي من الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته". (14)
إن شعر الخليفة ترجمة باطنية لما يعتمل في ذاته. وتجربته الشعرية نابعة من حالة ذهنية تتملكه، ولا يولد الشعر إلا نتيجة تعرض الشاعر لمؤثر قوي، يهز وجدانه هزا لا يلين، فينتج عنه انفعال عاطفي.


أما القصص فالسباعي يهدي مجموعته "مسلّة الأحزان السومرية، إلى "بلد ميت"، ويتبع الاهداء لمقولة شاعر سومري، يقول: "كُتب على هذه الأرضِ أن لا يقُالُ فيها سوى المراثي والمناحات ". (15)
ففي ظل الحروب العبثية، والصراعات التي لا تنتهي، يكون من الطبيعي أن يؤثّر الواقع الذي يحياه القاص والشاعر، "في الموضوعات التي يستقي منها مادته...، وللشكل الذي يقدّم به هذه المادة،...، لذلك لا يكون غريبا أن نحسّ بطعم الموت، أو نتلمس نكهته". (16)
وسأحاول أن أفتش بدقة في نفسيهما المضطربتين والخائبتين، واللتان يأكلهما الاغتراب، ويقودهما الضياع، والراكبتان على خيول الفرار من واقع مؤلم إلى عالم أكثر جمالا وأمناً.
والأسئلة هنا، كيف نظر كل من الشاعر والقاص إلى الواقع المعاش والمحيط بهما؟ كيف استخدما ريشتهما ليعبرا عمّا يجري حولها من جنون؟ وهل نجحا في توصيل ما يعتري وجدانهم من فيضانات إلى المتلقي وهل أحسنا إظهار تجربتهما ليعيشها القارئ الذي يكتوي بنارها أيضا؟

يأكل الألم الشاعر، في سعيه نحو حياة عادية وهانئة، غير إنه لا يجد سوى مكان يملؤه الغياب، وثياب مبللة بالدموع، لا يحلم إلا بوطن حتى لو كان بعكّازين. يقول:
"لم يجد في صدأ المكان
سوى
دمعة من ثياب
وظلِّ الغياب..!
كان غريبًا عن قشعريرة البيت
منهي حلمه
وطنٌ
ولو بعكّازين..! (17)
وينتقل بنا إلى مشاعرة الذاتية نحو الحياة الواقعية، التي لا يرى فيها سوى الموت بمعناه البيولوجي والمعنوي، يقول:
"بابان في روحي
لا أعرف أيّهما أفتح
لتتكاثر صور الموتى
وتتساقط صور الأحياء
أنا ظلٌّ من نبيذ
هاربٌ من مشاعرِ الوهم". (18)
يحاول التخلص من هذه المشاعر الطاغية، التي يرى فيها حتى الصبح أعرج، وسيختار الوقوف مع صور الموتى لا مع صور الأحياء الذي ماتت فيهم المشاعر السامية. وهو يحب الصحراء أكثر من المدينة، ففي الصحراء ثمة فضاء لا محدود، وطهارة ونقاء، ليس كما المدينة التي تبدو متوحشة، ومظلمة، صور المدنية خرجت من واقع الحياة، فالشاعر يحس بالغربة والاغتراب والقطيعة مع المجتمع، ومواقف سكانها تتصف بالتغير والتلون بعكس الصحراء التي تتصف بالوضوح. هذه الصورة السوداوية يمكن أن تكون ولدت نتيجة معاناة الشاعر في بحثه عن التكامل الاجتماعي وشعوره "بالوحدة والغربة والضياع، الذي لا يعني مجرد انقطاع العلاقات العاطفية بين البشر، بقدر ما يعكس وجه المدنية". (19)
فالعلاقات في المدنية اصطناعية قائمة على المصلحة والمجاملات النفعية، وكل شخص يحاول أن يوقع الآخر في الحفرة، وحتى العلاقات الأسرية تتفتت.

بينما قصص السباعي ناتجة عن الصراع الداخلي الرهيب الذي يعيشه، يفتش عن حياة عادية وهانئة، غير إنه لا يجد سوى مكان يملؤه الغياب، وثياب مبللة بالدموع والدم.
في قصة "شارلي شابلن يموت وحده" المكتوبة بضمير المتكلم، يحدثنا السارد إنه إنسان بسيط يعمل مصلّحاً للأجهزة الكهربائية الدقيقة في مدينة أور، وهو شخص يحب الحياة، وقارىء نهم، يقول عن نفسه: "تعلمت من زوربا حب الحياة ، وكنت كجيفارا متمرداً ، كنت معوزاً للفرح ، لابتسامات الناس ، للربيع يلامس قلبي ، للبياض ، لرؤية الألوان الفاتنة تطرز حياة الناس ، لأجواء السعادة تشرق على الناس مثلما أشرقت شمس تموز
صباح اليوم الجمعة ". (20)
ويبدأ صباحه بابتسامة، وينهي غروبه بابتسامة. وهو كشارلي شابلن مشرقا بالمسرة، لم يعرف التذمر طريقه إلى حياته، ويعيش في قلب أبيض راضيا وقانعا بحياته. في أحد الأيام يدخل "يحيى المنغولي" محلة وهو شخص نقي وعذب بلا حدود، ويحبه كل من يعرفه، يحمل بين يديه جهاز الستلايت وجاهز التحكم طالبا اصلاحه، يستقبله بوجه بشوش ويمازحه، وبعد الفحص يخبره إن الخلل في جهاز التحكم، ولا بد من شراء جهاز جديد وهنا يخبره يحيى إنه لا يملك المال، فيعطيه ثمن الجهاز ويغادر فرحاً مطمئناً، بعد خروجه بلحظات رج المكان انفجار عنيف، سبقه ضوء أنار السماء، وبدأت أصوات الصراخ والعويل في العلو، خرج من محله ليستطلع الأمر، فوجد "الأشلاء تملأ السوق ، صار المكان بشعاً، ريح حمراء عصفت بالسوق والناس وكل شيء، جعلت أرض أور أرض دم، أرى الدمار طال كل شيء". (21)
بل حتى النباتات أصابها الرعب، فهامات النحيل أكتوت بدماء القتلى والجرحى. يسرع نحو الحشد المتجمع فوق الإرهابي الثاني، فالارهابيون عادة يعمدون إلى التفجير المزدوج، كان الكل يضرب شخصاً ما، وهم يصرخون امسكنا بالإرهابي الذي فجر العبوة الناسفة، يحاول الوصول إلى الشخص الإرهابي، لم يكن سوى "يحيى المنغولي" الذي فارق الحياة تحت ضربات الحشد، جسده مدمى، ويمسك بيده اليمنى جهاز التحكم، مات مستسلما مطمئنا راضيا، وارتسمت ابتسامة ملائكية فوق شفتيه الشبيهتين بفم السمكة، وعيناه مفتوحتان حائرتان وفيهما أسئلة دون إجابة، كيف أصيب الناس بالهوس والجنون؟ لم يكن يحلم سوى بإصلاح جهاز التحكم ليرى العالم.
كان موته  صاخباً، "مرقت فوقنا سحابة بيضاء قريبة غطت عالمنا القاسي، نظرت صوبها وهي تحجب الشمس الحمراء المتوهجة المستديرة العمودية وسط سماء رصاصية داكنة،
دوى صوت انفجار ثان" (22)
يفتش السارد عن نافذة ضوء في هذا الظلام الحالك ولا يجد غير الدم واليباب والموت العبثي.
إن كلاهما يتساءلان بحيرة وألم، أين الأمان والاستقرار؟ أين دفء المحبة؟ لا شيء في المدنية غير المصالح المادية التي تقتل الروح.
يقول الشاعر:
"وحدها المدنية حالكة السّواد
وأشباحها تشرب الدّم...!". (23)
تلاحقه الكوابيس، فهو لا يستطيع النظر إلى وطن يلتهم أبناءه، ويجرجرهم إلى حفر الموت، ويطالب وطنه أن ينهض، ويزيل عنه غبار الزمن، ويقلّم أظافر الفاسدين ولصوص الأحلام، يقول:
"كلُّ هذه الكوابيس
بلا شوارع مُعبّدة
كان على الأوطان أن تكبر قليلا
أن تُقلّم أطرافها الصّدئة
أن تتعالى على فقاعتها الصّغيرة
أن تمنحنا وردة
بدلا من قطعة بيضاء
وحُفرةٍ لا تكفي دمعة كلبٍ ضال...! (24)
فالشاعر عندما يصف سكان المدنية فأنه يصف نفسه ومشاعره، فالكل شارد الفكر، مشغول البال، ساهماً، متعباً، يعانون الوحدة والانعزال والغربة والضياع والتشيؤ في زحام لا ينتهي. التجهم، العبوس وغياب الضحكات.

أما القاص في مجموعة "إيقاعات الزمن الراقص" يجد حارس المقبرة امرأة، في البداية يذهب فكره إنها جاءت تسرق عظام الموتى، ولكنها تأخذ بالبكاء، فيحاول طمأنتها، وتستمر في النشيج، وكأنها تذكره في حياته الماضية التي أنفقها في مراقبة عوائل الموتى وهم يبكون، ثم يسألها عن سبب بكائها، فتقول:
"وحیدة أبكي كل شيء في حیاتي فحیاتي بكاء في مأتم. غریباً وسط الموتى أعیش، شعور بالیأس شرع یقتات علي، یتآكلني تعب مزمن لما أشاهد من فواجع". (25)
تدنو منه، قائلة لماذا خطبتني؟ يبتعد مذهولا: أمجنونة انت؟ وشرعت تحكي له قصتها المأساوية مع الرجال، فعطف عليها، وحاول لملمة جنونها المبعثر، وشريط حياته يعمل أمام ناظريه "نشطت بداخلي مرارة الحیاة، وبأنني معشوشب هنا في المقبرة، كأنني عشبٌ ضار یقتات وجعاً، یتلبسني الإنهاك كوني زمناً مضى، بل فكرة سرعان ما تناقضها حیاة أرهقها الطوفان بین القبور حارساً للموتى". (26)
يلتصق جسده بجسدها العاري، ويطردا أحزانهما وهمومهما دون وعي، في الفجر، تظهر "تاجية" عاریة ومستلقية على الأرض، "خیوط الفجر تغتسل بدموع الشموع طاردة كل أثر للنعاس، أیقنت بأنني من وضع الشمع الأحمر فوق بوابة اللیلة الماضیة، فسال الشمع
الأحمر شوقاً في انحدار ظلفتي البوابة السحریة". (27)
غادر صوب مهجعه ليرتاح من صخب الليلة الفائته، وهنا ظهر غراب لتاجية العارية، فقالت له: اغرب عن وجهي، لا شأن لك بي. يغادر حارس المقبرة وطعم اللذة في فمه، ويقول لها: قولي للغراب: سكين وملح. فتصرخ تاجية المجنونة، وابتسامة عذبة على شفتيها:
"سكين وملح، سكين وملح". (28)
فما زال الكاتب يحتفظ ببعض أمل، وهو الذي قدم إحدى قصصه بمقولة لألبير كامو، تقول: "إِنَّ ما یمنعني عن التفكیر في الموت أنَّ في داخلي قدراً كبيراً  من الحیاة". (29)

ويهرب الشاعر من واقعه المرير صوب أحلام مشتهاه، يقول في قصيدة" حلم":
"حلمت
أنّ لي وطن
وجنة طيورها صغار
وعندما أفقت
وجدتني مُمدّدا
يلفني كفن
مُسوّر بالنار...". (30)
والموت قد يكون معنوياً، فعدم القدرة على الفرح موت، ومنع استنشاق نسائم الحرية موت، وغياب المحبة موت، يقول:
"الضّحكة الوحيدة الخارجة على القانون
نسيتها أمس على حافة الليل
هذا الصّباح
صحوت بلا فم..! (31)
فالشاعر يحيى في مكان يخيم عليه البؤس، إذ حتى الضحكة تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، ولأنه يسعى صوب الفرح، فإن ضحكاته تجر عليه الألم بدلا من السعادة، يفقد فمه لأنه تجرأ ومارس الضحك الذي هو في عرف الظالمين خارج على القانون.
تتدفق مشاعر الشاعر المليئة بالخيبة والمرارة، يقول في قصيدة "بلا رؤوس!":
"ليت هذا القلب أيقونة فارغة
ليته محنطٌ مثل رؤوس الغزلان
في الحكايات التي تسيل على الجدران الهرمة
لا يشعر بسخرية الآخرين
لا يؤلمه حجر يكسر نبضه المرتبك
أعمارنا التي سرقها النسيان
أعمارنا المقضومة من كلِّ اتجاه
المهجورة كبيتً فقد ابتسامة الهواء في الحرب
أعمارنا لم تعد ترتدي ثيابنا
ولا عيون العشيقات تنقلنا إلى مرافئ خالية من البرد...". (32)


لم يعد شيء قادر على إحياء قلب الشاعر، فهو خواء، لا محبة في الفضاء القريب، الناس قاسية، والأيام الصعبة تنخر في الجسد، لا شيء حتى الحبيبة عاجزة عن نقله إلى مرفأ الآمان، لا شيء غير الصمت كصمت المقابر، والبرد الذي يأكل الروح والجسد.
وفي قصصه القصيرة جداً يبقى الموت يطارد شخصيات الكاتب بلا رحمة، فالحظ العابث تدخل ليقضي على عائلة هذا الرجل المسكين، ويشتتها، ويجعله عاجزا ومتشردا، لا لشيء سوى إن منزله يقع خلف فندق استهدفته القوات الأمريكية.
وفي قصة "جندي" القصيرة جدا، يقول:
"بعد انتهاء المعركة، جندي يخرج من كيس الموتى ويقول لزملائه:-
 -  مهلا مازلت حياً". (33)
فما زال هناك بقية من حياة، يجب أن نعيشها، وفي الأخير يجد الحل لكل هذه النوائب في قصة "امرأة توشَّحت بالرماد" والتي تبقى ثيمة الموت هي الحاضرة بقوة فيها.
تظهر فيها امرأة مليئة بالحزن والغضب على مآل الوطن الممزق والمبتلي بالمصائب، وتطال الكاتب أن يقتنص اللحظة، ويصور أوجاع العراقيين ليثأثر من العالم القاسي، تقول له: " لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقتِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالمِ القبيحِ الذي نعيشهُ". (34)

إنَّ الوطن الذي لا يمنح مواطنيه سوى الموت لا يسمى وطناً، إن الظالمين والذين يعيثوا فساداً ودماراً في الوطن سيأتي الوقت الذي يدفعون فيه الثمن، فهم سيعجزون عن قتله، يقول الشاعر:
"لم تكن شهقةً يتيمةً
ولا انحناءة غٌصن مثقلٍ بغبار السّنوات
حينما سرقوك من أعين الطيور النائمة
أدركوا
أن البياض لن يموت برصاصة...!. (35)
فرغم كل شيء، رغم الموت في الشوارع، والحياة البائسة في البيوت، إلا أنَّ ابناء الوطن الحقيقيون سيصعدون من بطن الأرض، وبنار محبتهم سيطردون الليل، يقول في قصيدة "ريثما نلتقي":
لا..
لن تموت.
كل نارٍ ستنهض من رحم الأرض يا صاحبي". (36)
في النهاية سيبنى الوطن بسواعد أبنائه الذين يعشقونه ولا يتأخرون عن منح حياتهم من أجله. إنَّ الكاتبين يحسان بالريبة والرهبة "من هذا الاشتباك على حدود العلاقات ومفصل التقاطعات حول ما هو كائن وما يجب أن يكون الذي هو حلم شاعر بالحق والخير والجمال... وما زالت مسألة الحرية، حرية اللغة والتعبير على وجه الخصوص". (37)
وكما تقول الباحثة فاطمة الوهيبي: تشتبك جسدية القصيدة مع جسد المكان والعلاقات في هذا الجدل الوجودي، وتكون القصيدة مكان الذات الرافضة لما يخالف وعيها وما هو حق لها وما يتعرض له من قمع أو استلاب.
القصص والقصائد متحررة من التقليد، ينطلقا (القاص والشاعر) من حاضر بائس، يحاولا استشراف الغد الذي يشعرهما بالخوف ألا يكون بأفضل من الماضي والحاضر. إنهما وإن بدا في بعض اللحظات إنهما مستسلما إلا أنهما يثوران ولا يهادنان، ويحاولا الرحيل من عالمهما الفوضوي إلى عالم أجمل، يغرق الشاعر في الرمزية في بعض القصائد، وقد خلع عن الموت معناه المعروف، وجره إلى عالمه الشعري، الذي اختلطت فيه الرومانسية الموغلة في الألم، وبعض الشطحات الصوفية، لذلك جاء شعره مغطى بسحب الحزن والارتباك والريبة، وهي سحب تعبر عن الاغتراب والضياع، وانكسار النفس أمام تغول الحياة، مما يجعل الشاعر يبحث عن الهروب من هذا الجحيم إلى الموت في بعض القصائد بعد أن خسر الشاعر الحبيبة والحرية والرضا، وبعد ان دفنت الإنسانية ضميرها، وطمرت الحب، وسحقت الأحلام، هذه الحياة الكئيبة في أوطاننا العربية جعلت الشاعر العربي المعاصر أكثر التصاقا بالموت عمن سبقوه. (38)
وهذا الفعل كما يقول محمد بنيس يأتي على الأغلب ملازماً للانفعال والتوجع في الشعر المعاصر، " إنه ملازم للإحساس بالزمن فردياً وحضارياً، حيث العذاب الجسدي يتضامن مع الغياب الحضاري، وبالملازمة، جعل الشاعر المعاصر من الموت ملتقى الرغبات، وتعارض الاختيارات". (39)

إنَّ الشاعر في دواوينه، والقاص في قصصه تحررا من الموضوعات التقليدية، وتناولا ثيمة الموت المادية والمعنوية، ونقلا تجربة الموت إلى عالم شعوري، متخذان من تجربة الموت معادلاً موضوعياً ليعبرا عن حالة أمة تعيش في ظل أزمات لا يبدو أن لها حلا.
يتفاجأ المتلقي بتعبيرات مدهشة عند منحنيات الكلام، من غير توقع أو انتظار، كتابة مذهلة تنقله إلى خارج العادي والضجر.
في القصائد كما في القصص ثمة لذة، ونص اللذة هو: "ذاك الذي يرضي، يفعم، يعطي المرح، ذلك الذي يأتي من الثقافة، ولا يقطع معها. إنه مرتبط بمارسة مريحة للقراءة". (40) ومتعة ونص المتعة: "ذلك الذي يضع في حالة ضياع، ذلك الذي يتعب (ربما إلى حد نوع من السأم)، مزعزعاً الأسس التاريخية، الثقافية، النفسية للقارئ، صلابة أذواقه، قيمه وذكرياته، ومؤزمًا علاقته باللغة". (41)
 لا ريب أن الشاعر والقاص يملكان تجربة شعرية قيمة تستحق أن تدرس، ففي النصوص نزعة جمالية، ويحوزان على أدوات التعبير والصياغة، نصوص تتدفق من نبع لا ينضب.
شلال وجداني، لا يمكن أن يكون الكاتب مبدعاً ومؤثراً دونه.
............................

الهوامش:
1- علي السباعي، مسلّة الأحزان السومرية، دار الدراويش للنشر والترجمة، جمهورية بلغاريا – بلوفديف، ط1، 2018م، ص 66.
2- المصدر السابق،  المصدر السابق، ص 71.
3- انظر ياسين النصير، الرواية والمكان، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2008م، ص 18-19.
4- محمد إسماعيل قباري، علم الاجتماع والفلسفة، ط2، ج2، منشورات دار الطلبة العرب، بيروت،1968م، ص 59.
5- علي عبد المعطي، قضايا الفلسفة العامة ومباحثها، ج2، منشورات دار المعرفة، الإسكندرية، د ت، ط2، ص127.
6- ياسين النصير، الرواية والمكان، مرجع سابق، ص 70.
7- فاطمة الوهيبي، المكان والجسد والقصيدة المواجهة وتجليات الذات، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005م، ص 32.
8- أحمد عبد الخالق. قلق الموت، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 1987. ص 17.
9- ابن منظور. لسان العرب. تحقيق عامر حيدر. بيروت: دار الكتب العلمية. المجلد السادس (أ- ل). ط1. 2005. ص (817- 821).
10- مفيد محمد قميحة. الاتجاه الإنساني في الشعر العربي المعاصر. بيروت: دار الآفاق الجديدة. ط1. 1981. ص 376..
11- يوسف عزّ الدين. التجديد في الشعر الحديث. دمشق: منشورات دار المدى للثقافة والنشر. ط2. 2007م. ص 46.
12- المرجع السابق. ص 46-47.
13- المرجع السابق. ص 47.
14- نقلا عن: أحمد حيدوش. الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث. الجزائر: منشورات ديوان المطبوعات الجامعية. د ت. ص 91.
15- علي السباعي، مسلّة الأحزان السومرية، دار الدراويش للنشر والترجمة، جمهورية بلغاريا – بلوفديف، ط1، 2018م، ص 6.
16- وليد أبو بكر، الكتابة بنهكة الموت، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، ط1، 2009م، ص 5.
17- دخيل الخليفة. ديوان "يد مقطوعة تطرق الباب". ط2. 2014. الكويت: دار كلمات للنشر والتوزيع. ص 19.
18-المصدر السابق. ص 20.
19- عز الدين إسماعيل. الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. بيروت: دار العودة ودار الثقافة. ط2. 1972م. ص334-336
20- علي السباعي، مسلّة الأحزان السومرية، مصدر سابق، ص 7.
21- المصدر السابق، ص 9.
22- المصدر السابق، ص 10.
23- ديوان "يد مقطوعة تطرق الباب". مصدر سابق. ص 24.
24- المصدر السابق. ص 26.
25- علي السباعي، مجموعة إيقاعات الزمن الراقص،  منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 2002م، ص 16.
26- المصدر السابق، ص 19.
27- المصدر السابق، ص 22.
28- المصدر السابق، ص 23.
29- المصدر السابق، ص 74.
30- دخيل الخليفة. "بحر يجلس القرفصاء". الدمام: منشورات دار أثر للنشر والتوزيع. ط2. 2011. ص 34.
31- ديوان "يد مقطوعة تطرق الباب". مصدر سابق. ص 29.
32- دخيل الخليفة. "صاعدا إلى أسفل البئر". البحرين: دار مسعى للنشر والتوزيع. ط1. 2014. ص 38.
33- علي السباعي، مدوَّناتُ أرملةِ جندي مجهول، دار صفحات، دمشق، ط1، 2014م، ص 18.
34- المصدر السابق، ص 6.
35-"يد مقطوعة تطرق الباب". مصدر سابق. ص 13.
36-"بحر يجلس القرفصاء". مصدر سابق. ص 88.
37- فاطمة الوهيبي. المكان والجسد والقصيدة المواجهة وتجليات الذات. الدار البيضاء: منشورات المركز الثقافي العربي. ط1. 2005. ص 32.
38- للاستزادة انظر: وليد مشوح. الموت في الشعر العربي السوري المعاصر. دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب. ط1. 1999.  ص447 .
39- محمد بنيس. الشعر العربي المعاصر بنياته وإبدالاتها. الدار البيضاء: منشورات دار توبقال للنشر. ج3. ط3. 2001. ص214.
40- رولان بارط، لذة النص، ترجمة فؤاد صفا، والحسين سحبان، دار توبقال للنشر والتوزيع. الدار البيضاء، ط1، 2001م. ص22.
41- المرجع السابق.

 

تعليق عبر الفيس بوك