الهوية كما يفسّرها البعض!

 

عبد الله العليان

في إحدى الندوات الثقافية بأحد البلاد العربية، استمعت للكاتب والأكاديمي د. تركي الحمد، في مسألة (الهوية وماذا تعني توصيفاً)، والحقيقة أنّ د. الحمد، أعطى توصيفاً غريباً لمسألة الهوية كمفهوم، وأختزلها في خلاصة تكاد تقترب من السذاجة، بحيث لا تُعطي هذا المفهوم تعريفاً مناسباً ودقيقاً يتقارب مع ما هو شائع عن الهوية وتعريفاتها المتعددة والمختلفة عند العديد من المُفكرين والفلاسفة منذ أقدم العصور، ومما قاله د. تركي الحمد في توصيف مفهوم الهوية "لو سألت أحد العامة سؤالا بسيطاً: من أنت؟ لما وجد مشكلة في الإجابة، سيقول لك أنا فلان ابن فلان، من العائلة، أو القبيلة، أو الفئة، أو الطائفة ( (:والهوية لا تُشكل أي إشكالية أو أحجية أو معضلة بالنسبة له، فهو يُمارسها في حياته اليومية، ويكتسبها من المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي ـ كما يرى د. تركي الحمد ـ فهي ليست هاجساً، أو المفكر فيه بالنسبة له، طالما أنها ممارسة يومية معتادة". والحقيقة أنَّ هذا التوصيف من الباحث الحمد، يُجرد قضية الهوية من مضامينها التي وضعت لها من المفكرين والفلاسفة بالصيغة التي طرحها بهذا التبسيط، منذ القدم حتى الآن! فهو أولاً يُجرد هذا المفهوم من جوهر الشيء وطبيعته، وماهيته، فكره، وثقافته، ومقومات وجوده، والقيم التي يمتلكها، وسبل عيشه التي أصبحت تراثاً كبيرا ممتداً لقرون للإنسان ، وهذه كلها سمات تميزه عن الآخر المختلف، لأن هذا الاختلاف والتمايز هو الذي يجعل كل أمة، لها قيم وثقافة مختلفة، وهذه مسألة جوهرية كما أشرنا.
والإشكالية أن د. تركي ونتيجة لصراعاته الفكرية مع بعض المدافعين عن الهوية الثقافية، وعدم الذوبان في الآخر وفكره، لعبت دوراً رئيسياً في تبسيطه لقضية الهوية بالصيغة التي وضعها، وهذا لاشك تسبب في غياب الموضوعية، التي تقصي الحياد، عندما تكون المسألة خلاف مع آخرين، فيسعى المرء إلى الإخلال بالمفهوم، أو تبني رؤى بعيدة عن ما تتبناه المفاهيم المعاصرة بتجرد، فهو كما نعرفه جيداً، ونتيجة لخلفيات فكرية، يتبنى الكثير من الرؤى الفكرية الغربية ويُدافع عنها، ونتيجة لذلك فإنَّ مفهوم الهوية كما براها الحمد، أنه لا إشكال أن نتبنى الرؤية الغربية أو نتوافق مع الكثير مما يتم طرحه من الأفكار والرؤى في مسألة الهوية وفي غيرها، ولا نعطي ـ كما يرى ـ هاجساً لمسألة الهوية الفردية أو الجماعية، وهذه نراها مغايرة، أو قفزا على واقع الهوية الثقافية أو الفكرية لأي أمة من الأمم، فالبعض ـ ومنهم الكاتب تركي الحمد، يُريد أن يجعل رمزية الهوية ومدلولها الأهم، بعيدة عن المقّوم الأساسي لها، ويجردها من هذا السياق، إلى سياقات تجعلها هوية مفرغة من محتواها، ولا شك أن "الهوية ـ كما تقول د.عبير رضوان ـ لأي أمة تحمل في طياتها أبعاداً تاريخية وثقافية ودينية واجتماعية وبشرية واقتصادية. فكل محاولة دمج لمجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلها إلى هوية واحدة، تزرع صدمة الإكراه التي تجعل احتمال ولادة كائن مسخ". والإشكالية الراهنة أنَّ الآخر المختلف، يسعى بكل قوة لأن يلغي هوية أي أمة من الأمم في راهننا ويسعى لتقديم هويته ورؤيته الفكرية، سواء من خلال الاختراق الثقافي التي بلا شك تلعب دوراً كبيراً في ضرب الهويات الأخرى أو تمييعها، وهناك صراع فكري مُتحرك، ومواقع تشتغل على محو الهوية وتجريدها من مضامينها ومُمانعتها، وجعلها هوية مهلهلة، بحسب ما قاله د. تركي الحمد( من أنت؟ قال: أنا ابن فلان)! وهذه الخلاصة للأسف تقزيم للهوية وتذويبها عن تجسيدها لميراث كبير وخصائص ومميزات مُتعددة المجالات، وليس هذا الفهم القاصر الذي يقترب من السذاجة!
أن فرنسا منذ عدة عقود، تتحدث عن الاختراق الثقافي لثقافتها، وهويتها المختلفة، عمَّا اسمته بالغزو الثقافي الأمريكي على وجه الأخص وهناك الكثير من الآراء حول هذه المسألة للعديد من المفكرين الفرنسيين، وكندا أيضا تحدثت على لسان رئيس وزرائها الأسبق، عمَّا تشعر به كندا من خطر على هويتها الثقافية من الاختراق الثقافي الأمريكي فقال: " إننا شعر إننا أمام قدم فيل ضخم ـ يقصد الولايات المتحدة الأمريكية ـ، فإن أي شعرة تتحرك في جسمه تهز كندا، ومهما كانت أوجه الشبه والتقارب بين البلدين فإن كندا دولة أخرى ولها ثقافة أخرى". وهذه الدول بالرغم من التقارب الفكري والثقافي والديني، تشعر بالخطر على الهوية الذاتية، بالرغم من التقارب الكبير، فلماذا نحن نتهاون، ونشعر بالهزيمة الفكرية، ونأتي بمبررات لنتوافق وفكر الآخر وثقافته، وهويته، هذا الشعور، هو الانسحاق والذوبان والانكسار، وهي بلا شك حالة نفسية تجعل الآخر هو النموذج الذي يجب أن يحتذى ويتم تقليّده، وفق مقولات لا تتوافق مع النظرة نفسها لمسألة الهوية الذاتية التي بعض الغربيين ينقدها بقوة، والغرب نفسه يرفض ذلك ـ كما أشرنا آنفاً ـ عن رفضه التام للذوبان ومسخ الهوية الثقافية، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير ما قاله المفكر المغربي الراحل د. محمد عابد الجابري، عندما قال في كتابه [المسألة الثقافية]، " إن الاختراق الثقافي هو اختراق للهوية أساساً. لنقل إذاً إننا نقصد بـ ((الثقافة)) هنا: ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكل أمة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء". ولا شك أنَّ قضية الهوية تراهن عليها الأمم التي تواجه التحديات والضربات، وأمتنا تواجه التحدي، لذلك تعتبر الهوية خط الدفاع عن المخاطر، ومنها قضية القدس، وما يسمى بصفقة القرن، لأن هذه الرمزية تجعل مسألة الحفاظ على المقومات مسألة وجود جزء من الهوية، لا مسألة حدود.