أحمد الرحبي
يعتبر الموت من أغرب الظواهر التي وقف الإنسان أمام تفسيرها عاجزا، وخائفا في ذات الوقت، وربما هذا العجز في التفسير قاد الكثيرين إلى التشكك في وجود شيء بعد الموت، وإذا جئنا إلى الخوف من الموت، فإن توقف مختلف الوظائف للجسم وتعطلها تعطلا تاما، ونهاية الجسد المادي وفنائه، لا يشكل منبع الخوف والرهبة التي نعيشها من الموت، ولكن الخوف والرهبة من المجهول الذي يُفضي به الموت بعد أن يكون قد استطاع أن يسلنا كخيط من قطعة نسيج، ويقذف بنا على قارعة المجهول، مجهول وصفه بعض الفقهاء كمحمد ابن القيم الجوزية في كتابه "الروح": "إن ذلك (يقع) عند منقطع العناصر"؛ حيث تبعث "أرواح السعداء عن يمين آدم وأرواح الكفار الأشقياء عن يساره" حسب قوله.
لكنَّ العودة من الموت ظاهرة أغرب من الموت ذاته، وهي ظاهرة شغلت الكثيرين والتي عبرت عنها مشاهدات ما بعد الموت، التي تحدث ما بين موت القلب وعودته للحياة مرة أخرى، أو ما يعرف بالموت السريري، وضمن هذا الصنف من التجارب، ربما يمكننا أن ندرج ما رواه الدكتور صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مؤخرا، بعد إفاقته من الغيبوبة؛ وذلك بعد أن توقف قلبه خلال عملية جراحية لزرع الرئة، ودخوله في موت سريري لمدة ثلاث دقائق وعشرين ثانية، برغم تشكيك البعض فيما رواه من ملاحظات هي في مجملها تعبِّر عن دقة تفصيلية نجدها متشابهة ومتكررة في معظم ما يسمى "تجارب الاقتراب من الموت"، وربما هذا هو دافعهم للتشكيك فيما قال من ملاحظات، إذا ما استثنينا دوافع الرفض والتشكيك في كلام الرجل تلك المبنية على خلفية سياسية، والتي تعكس موقفا من دوره في اتفاق أوسلو الذي خيب آمال الفلسطينيين، وهو ذلك التشابه المتكرر من مثل: خفة الجسد والعبور السريع فيما يُشبه النفق الذي في نهايته ضوء، مما يُشكل في نهايته النورانية البوابة التي تفصل بين الحياة والموت (حسب الروايات المتواترة لأصحاب هذه التجارب)، والتي يكون عبورها حتى النهاية انتقال إلى العالم الآخر بدون النكوص إلى الخلف، والعودة إلى الحياة، وهي الفرصة التي تتاح لمن عايشوا تجربة "الاقتراب من الموت" في آخر لحظة دائما، بما يشبه قرعة الحظ السعيد، ربما ليشكلوا بمثابة الشاهد العائد من الموت؛ حيث يروون غرائبه ويفصلون عجائبه في روايات مفصله عن هذه التجارب، والتي يزخر بها موقع مؤسسة أبحاث تجربة الاقتراب من الموت على الإنترنت، والذي ينشر ملاحظات تجارب الاقتراب من الموت من جميع أنحاء العالم وبكل اللغات، ومن بينها اللغة العربية، التي قدمت بها شهادات عن لحظة الاقتراب من الموت عاشها أصحابها، من مصر ولبنان والسعودية، وحتى من السلطنة، تشابهت فيها المشاهدات، وإن اختلفت بينهم الظروف أو الحوادث التي اقتربت بهم من الموت.
وبرغم الفضول الذي حدا بالعلماء لمحاولة تفسير ظاهرة الاقتراب من الموت فى أبحاثهم وقراءاتهم حول مشاهدات العائدين من الموت، لكن لا يوجد تفسيرٌ علميٌ للظاهرة، ولكن بعض العلماء يقولون بأنَّ العقل الباطن هو من يفتعل تلك الأحداث وتلك الأماكن لتسهيل عملية الموت.
لكن ماذا لو كانت هذه التجارب مع الموت، هي طريقة سماوية لغرض تنبيه الإنسان بالمهمة التي خلق لها، يقول كولون ولسون في كتابه "ما بعد الحياة": إن الأنبياء والرسل الذين استطاعوا أن يطلعوا على الغرض من الحياة من خلال وحي غيبي، ثم استخدموا قواهم الفائقة لمحاولة إقناع كل شخص بأن يعيش كما لو أن هدف الحياة هو الحصول على جواز سفر إلى السماوات، يُضيف: حقق منهاج منع البشر نسيان المهمة المبعوثين من أجلها، نجاحا باهرا لآلاف السنين، وحافظت الأديان على الإبقاء على الإنسان عاملا في سبيل ذلك الغرض الرئيسي، وهو زيادة تفاؤل الإنسان ونمو ذكائه. ويضيف ولسون: ولكن تسبب نمو الذكاء في أن الإنسان أصبح متجاوزا بنموه نطاق دينه، وأدت تعقيدات الحضارة إلى خلق المزيد والمزيد من المتسربين، وهم أناس سلموا بأن الحياة لا معنى لها إطلاقا وأنها فترة سجن يعقبها العفو.
وللاتصال بطريقة أكثر استهدافا من أجل اقناع الناس بأن هناك حياة بعد الموت، قامت الروحانية -وهي تجربة في شكل حركة دينية بدأت في العقد الخامس من القرن الماضي، وانتشرت في كل أنحاء العالم- بالاهتمام بتجارب الاقتراب من الموت، وتبني الروايات التي يقدمها أصحاب هذه التجارب، بعد تمحيص دقيق وفق معايير صارمة تخضع لها حيثيات كل رواية من هذه الروايات الماورائية المقدمة، والتي جلها تحفل بالمعاني العميقة التي توثق علاقة الإنسان بما هو كوني، ودفعه للتطلع إلى أبعد من مظاهر الحياة المادية، للوصول إلى الهدف الأسمى من وراء الحياة والموت، وتحقيق وحدة الكون، والإيمان بأن لكل اٍنسان واجبا ما لزامًا عليه أن يؤديه فى حياته، حسب ما يقول أحد من عاشوا تجربة "الاقتراب من الموت" في شهادته المقدمة، مُؤكدا -حسب تجربته- أن الموت لا يعدو كونه انتقالا من حياة لها شكل معين لحياة أخرى لها شكل مختلف عن الشكل الفيزيقي لحياتنا المعاشة.