ليانة بدر في "الخيمة البيضاء" (3-3)


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات


حين تحتلّ الأيديولوجية المشهد السّردي
رابعاً ـ الشخصيات والحامل الأيديولوجي:
تماشياً مع سطوة الأيديولوجية على المشهد السردي في رواية "الخيمة البيضاء"، تختفي ملامح الشخصيات، وخاصة الجسدية منها، وتظهر مواقفها وسلوكياتها التي تجسّد هذه المواقف، فيما لا تهتم الكاتبة بإقامة علاقة من أيّ نوع بين الشخصية وتسميتها، مما يمكن أن يسهم في التشخيص؛ حتى إن اسم "نشيد" كان من الممكن أن يناسب شخصية ""بيسان""، لأن "النشيد" جزء من شخصيتها.
فإذا ابتدأنا من بطلة السرد "نشيد" باحثين عن صفات جسدية تميّزها عن الآخرين، فلن نجد إلا ذكريات شعر يشبه لفّة الحرير التي "أخذت تشحب حتى تغيّر لونها مع مرور السنوات"، ص25. أمّا ملامحها الأخرى فتبدو من خلال أفعالها وتداعياتها ووجهة نظر الآخرين حولها، فهي مناضلة ضد الاحتلال؛ إذ "كانت تظلّ متجولة بين البيوت والأزقة والحواري، تبث العزيمة هنا وهناك، وتقود التظاهرات، وتعقد الاجتماعات في المنظمة النسائية، وتوصل رسائل التنظيم إلى عناصره"، ص21. وهي أيضاً مناضلة في سبيل رفع الظلم عن المرأة في المجتمع الفلسطيني، وتمتاز شخصيتها بالقلق والغضب: قلق على ابنها "خالد" من سجن متوقّع ينتظره، وغضب على الاحتلال وحواجزه التي لا تنتهي، إضافة إلى اللامبالاة تجاه زوجها الذي صارت تستشعر خياناته، واختلافِها عن الأخريات، على نحو ما يشير "عاصي"؛ فهي "تخالف نساء الحي حولها، اللواتي لا يكففن عن رصد العابرين، وجميع التفاصيل عن كل ساكن كي ينقلن وشايات أو نميمة حوله"، ص43.
ولا يختلف "عاصي" في طريقة عرض ملامح شخصيته عن "نشيد"؛ فصفاته الجسدية لا تزيد كثيراً عن شعر قليل بدأ يكتسي بالشيب، ص56، وقد لخصّته "نشيد" بكلمتين هما "كتير غلبة"، ص56، أمّا الملامح التي تتجلى من خلال تاريخه، فهي ملامح أيديولوجية، تجسّد مناضلاً ثورياً جاب المنافي، "لا يطيق القعود، ولا يطيق الرّكون إلى شيء"، ص155، وعاش حياته مدافعاً عن الثورة الفلسطينية. وإذ عاد إلى "وطنه" ليحقق حلمه،  ولكنه اكتشف أنه غير مرحب به، لذلك يعيش غريباً حتى عن زوجته وابنته. لقد أصبح الوطن "جنته وجحيمه"، ص157؛ لأنه أحسّ "أنه طاقة معطّلة"، ص116؛ فهو "مجرد شخص عائد، لا يسأل عن وجوده أحد"، ص114، وهو فوق ذلك متهم بأنّ عودته "خرّبت البلد"، وهذا ما جعله عصبياً يخوض معارك المقهى مع أصدقائه بلا هوادة:
"ـ والله يا عزيزي خرّبتو البلد، ونكشتو كل شي على روسنا. لَشو رجعتو أصلا؟
ـ أنت يا ولد تسألني لماذا رجعت إلى وطني؟!
هجم على المتحدث يريد أن يلكمه على وجهه، فحال البقية بينهما"، ص120.
ها هنا يجسّد "عاصي" مشكلة العائدين، فقد لف ودار المنافي، وحمل فلسطين في قلبه شعوراً وجسّدها ممارسة نضالية؛ ليكتشف أنّه لا شيء، وهو "الذي شهد معارك كفر شوبا والأسواق التجارية في لبنان، وسمع الجنود يتهامسون بالعبرية تحت أشجار البرتقال المحيطة بمخيم الرشيدية"، ص41. لذلك جاء انكفاؤه وإحساسه بالخجل مضاعفاً، خاصة حين ينظر إلى ما تفعله زوجته "لميس".
وتقترب شخصية والد "نشيد" اقتراباً شديداً من شخصية عاصي، وتشاركها مشاعر العجز والخيبة والانطفاء؛ إذ يعتزل والدها الآخرين في مزرعته التي تقع على أطراف قريته، رافضاً الانتماء إلى مؤسسات عاجزة عن الإسهام في فعل التحرير، إنه ذلك القائد العسكري الذي "أدار العديد من المعارك في لبنان، وخرج حيّاً من العديد من الحصارات الدامية التي تعرّضت لها قواته، لكنه لم يستطع الانسجام مع حياته المدنية"، ص26، وتحدّى الموت وعاش "بعد ألف غارة على معسكرات الجنوب، شنتها مقاتلات الفانتوم والكفير، وكل ما أنتجه سلاح الجو الإسرائيلي من حوامات وآلات جهنمية كفيلة بحرق الصرصار في مخبئه تحت الأرض"، ص179؛ ليجد نفسه في بيئة لا تساعده على تحقيق حلمه في التحرير، فقد أخذ منه أصحاب النفوذ حلمه و"لم يتركوا له هنا غير السيجارة وفنجان القهوة، يغليها على ركوة قديمة مطعوجة دون يد، تشبّث  بها، ولم يرمها، لأنها تذكره بأيام القواعد العسكرية في الجنوب"، ص179. وهو يعبّر عن عجزه بأوضح صورة في الحكاية؛ إذ لا يكاد يقوم بفعل مؤثر، اللهم إلا إخبار "خالد" حفيده بأن أمه "نشيد" في خطر، وأنّ عليه ألا يسمح لها بالذهاب إلى القدس: "أمك ما بترد على التليفون. هي فين؟ قول لها ما تنزل على القدس اليوم. المشكلة كبيرة، وعليها هي شخصياً تهديد"، ص51.
أمّا "لميس"/ زوجة "عاصي" التي تمثّل شكلاً أصيلاً من أشكال مجابهة الاحتلال بالصبر العظيم؛ فقد ظلّت تعبّر عن انتمائها اللاواعي إلى المكان؛ إذ إنها صارت تسافر يومياً من رام الله إلى بيت أمها في القدس، محتملة معاناة الوقوف على الحاجز ومشقة الذهاب والإياب؛ لتكرّس حقها في المدينة، إلى درجة أنّها كانت تخاف أن تموت أمها العجوز، كي لا تفقد مسوّغها الظاهري في الذهاب إلى القدس يومياً. إنها غير معنية بمعاناة مشاويرها اليومية، ولا بمشاكل بيتها، ولا بمشاكل إخوتها، وصراعهم على بيت أمها؛ إذ إن كل ما يعنيها هو الذهاب إلى القدس، وقد "كان [عاصي] يعرف في دخيلته ما الذي يفتت قلبها، وكان يعاني معها مما يجري في القدس، مسقط رأسها، من آلام ومآسٍ يومية، وينسرب كالماءتحت قدميها، وتعتبره أهم بكثير مما يجري هنا في دارها"، ص58. لقد "كان يخاف عليها من مشاكل الحاجز، وتقلبات الجنود واشتباكاتهم مع الفتية هناك.. وبات يخاف عليها الآن أكثر من ذي قبل؛ بعد أن صارت البلدة القديمة مسرحاً لتعدّيات المستوطنين وعبثهم"، ص64، ولكنها لا تأبه بكل ذلك وتقضي أيامها على نحو ما يلخصه زوجها:  "سوف تكون إما قادمة من حاجز قلندية ومترعة بالتعب والإرهاق، أو مشغولة بتحضير أطباق الطعام لهم ولوالداتها المريضة كي تأخذها معها في الغد"، ص57.
وينتمي كل من "بيسان" و"خالد" إلى جيل جديد يقطع حبل الود مع الآباء، "جيل يتجه إلى ما يريده مثل الصاروخ"، ص127، ويعارض كلّ "المسلّمات" التي يؤمن بها من سبقه، ليس على صعيد الممارسة النضالية وأشكالها فحسب، بل على صعيد الفن أيضاً. فـ "بيسان" لا تشبه أباها، ولا تحب أم كلثوم ولا محمد عبد الوهاب، ولا أشباههم؛ لأنهم بعيدون جداً عن همومها ومشاكلها، وعن عالمها الذي تُصرّ على العيش فيه: عالم أغاني الراب الذي يتحدّث عن مشاكل الناس، بلا مراوغة ولا مقدّمات؛ لذلك تقول: "هنا الموسيقى، هنا الراب. هنا الشعور. هنا الحياة. هنا المشكلات التي تغنّيها الكلمات"، ص126.
و"خالد" يخبّئ بعض الأسرار الصغيرة عن أمه حتى لا تقلق عليه أكثر، وهو سعيد بأن تظنّ أمه بأن ثمة علاقة حبّ بينه وبين "بيسان"، لأنّ هذا الظنّ يساعده على إبعاد شبهة السياسة عن غاية اللقاءات المستمرة بينهما؛ حيث يساعدها في الاتصال بغزة، من أجل تنسيق أعمال فرقة الراب، وهو يخفي عن أمه أيضاً زياراته المتكررة مع أصدقائه لقطعة أرضهم، "يفرح حينما يذهب إلى هناك، إلى الأرض التي تقع في مرتفع جبلي قريب من الجامعة"، ص135.
وثمة شخصيات طيفية، تمرّ مروراً سريعاً، لتؤطّر الحدث، وتكمل تأثيث الأمكنة، على نحو زوج "نشيد"، فهو "الناشط المدني الذي خرج صوته هادراً في الانتقاضة الأولى، وهو المهاجر حالياً إلى جداول أعماله وأشغاله في شركة الأدوات الإلكترونية التي يملكها خارج البلاد"، ص26، وأمها التي تنتمي إلى نموذج الأمهات اللائي يخفن على أبنائهنّ وبناتهنّ، فهي تقول لها في أيام الانتفاضة الأولى: "بس يا بنتي، ارجعي لولادك"، ص27، وصديقتها "ندى"، وهي أرملة شابة، فقدت زوجها إثر مرض عضال في سجنه المؤبد، تلك الصديقة التي تكتم كل ما ينغص حياتها إلا حين يتعلق الأمر باضطهاد المرأة: "مش كافي اضطهاد المحتلّين، وكمان علينا تحمّل اضطهاد عائلاتنا وأهلنا لنا؟"، ص48. وهناك "وائل" المحتجز في غزة، و"غازي" المحتجز وراء الأسلاك مع شقيق "نشيد"، وعلى الرغم من قلّة حضور "غازي" في المشهد السردي، فإنه كان يمثّل واحة رومانسية في الرواية، يفيء إليها السرد من خلال وردة حمراء افتراضية تصل إلى "نشيد" عبر هاتفها الجوّال، فتصبغ حياتها بمزيد من الحزن والفرح: "وردة يا رب! من غياهب السجون، بدلاً من أن ترسل هي باقة منها لكلّ من هناك! يثير فيها هذا الحزنَ بقدر ما يثير الحبور"، ص77.
خامساً ـ خلاصة القول:
اجتهدت الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر من خلال روايتها "الخيمة البيضاء" في تقديم تحليل اجتماعي سياسي للواقع الفلسطيني في الأرض المحتلة، في ظلّ انتفاضتين، وقّعت بينهما اتفاقية أوسلو، وأفرزت وضعاً معقّداً حاولت الكاتبة تقصّي جوانبه، بأسلوب فوق أدبي، يعطي التوثيق والتفصيل أهمية كبرى، على حساب أدبيّة النص، وربما كان عليها، على الرغم من أهمية ما قدمته، أن تدرك أنّ الرواية سرد يُمكن أن يصلح حاملاً أيديولوجياً، وليست أيديولوجية تُلبَس بالرغم منها ثوباً سردياً.
صحيح أنّ الكاتبة طعّمت لغتها بـ "الكَبَر عَبَر"، و"جبت الأقرع ليونّسني، كشف قرعته وخوّفني"، والبصل الذي يقاوم قنابل الغاز، وفتة الحمّص بالزيت، وأثّثت أمكنتها بأغنية ع اللي جرى، وموعود بعيونك أنا، وبالمحلات التي تعرض الأثواب الفلسطينية التقليدية،
غير أنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا البعد الشعبي جاء فرعاً صغيراً على شجرة كبيرة من اللغة الفصيحة الذهنية الإخبارية التي كانت غايتها إيصال الخبر والموقف بعيداً عن شعرية السّرد.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ليانة بدر: الخيمة البيضاء، دار نوفل، بيروت، 2016.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك