ليانة بدر في "الخيمة البيضاء"(2-3)


أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

حين تحتلّ الأيديولوجية المشهد السّردي
ثالثاً ـ في بنية الحبكة والإطار الحكائي:
ثمة ملاحظة يمكن أن يدركها القارئ دون عناء، وهي تكثيف الزمن اللزج الذي يمرّ على الفلسطينيين في سجنهم المفتوح إلى أقصى مدى ممكن، وهذه ملاحظة إيجابية في البناء بشرط أن يتم ملء الفراغات الطباعية الناتجة عن تكثيف هذا الزمن بما هو سلس وموظف في بنية الحكاية العامة التي لم تكن مشوّقة بما يكفي، أو لم تكن مليئة بالتفاصيل المثيرة التي تشدّ القارئ، بل كانت مجرد خط أفقي تعاقبي تنطلق من خلاله بطلة الرواية "نشيد" من رام الله إلى القدس عن طريق حاجز قلندية.
وللحقّ فإنّ الكاتبة اعتمدت في ملء فراغات الحدث، شبه المتوقف، باسترجاعات الشخصيات وتداعياتها، غير أنها لم تكتف بذلك؛ إذ جعلت المرجعيات التوثيقية جزءاً من البنية، ما أدى إلى طغيان الذهنية على لغتها، وبمعنى آخر فإن احتفاء النص بالأيديولوجية إلى درجة جعلها تحتل واجهة اللغة الروائية أثّر تأثيراً سلبياً على جمالية اللغة، فاختفت روافع تلك الجمالية باستثناء البعد الاجتماعي الشعبي للغة الذي أسهم من خلال الأغنية والمثل في ترسيخ هوية فلسطينية بارزة المعالم.
وقد استندت ليانة في تقديم حكايتها وكشف أبعاد شخصياتها على الحلم، بوصفه أحد الوسائط الحكائية التي يعتمدها السرد، وجاءت أحلام شخصياتها أقرب إلى الكوابيس المفزعة، فـ "نشيد" "تتذكر منظراً منه يتكرّر داخل المنام نفسه. هي  بحجم صغير يقارب حجمها قبل أن تبلغ العشرين عاماً، ترتدي ثوباً من التول الوردي المجلل بكشكشات دائرة حول خصره. كانت تبدو تماماً مثل راقصة باليه، لكنّ الحلم كان يخبرها أنّ الثوب ثوب عرس لفرح، وكانت تحس أنها في خطر كلما عادت الصورة إلى التكرار في المنام"، ص53. وإذ تفتح عينيها في الصباح تشعر بالانزعاج؛ ذلك أنّ "إشارة العرس تفسّر على النقيض دوماً، فهي نبوءة بحدث سيئ"، ص53.
فإذا أردنا إلى تفسير هذه الحلم، وهو حلم واع بالنسبة للكاتبة طبعاً، استناداً إلى علم النفس الأدبي، فإننا سنحيله إلى الخطر الذي يحيق بالفتاة "هاجر"، ويتهددها بعد عقد قرانها على حبيبها؛ فإخراج الفتاة من الخطر هو قضية "نشيد" التي شغلتها، وتسرّبت إلى أحلامها، دون أن تعبأ تلك الأحلام بترتيب الشخصيات، وإسناد الصفات إليها؛ فالأحلام ـ كما يرى الكثيرون ونحن منهم ـ تفسّر الماضي لا المستقبل، وتعيد خلط المواقف في لا وعي الإنسان، لإنتاج علاقات غير مفهومة، تقوم بإسناد أحداث وقعت أو وقع جزء منها، بطريقة غير منطقية، إلى أشخاص آخرين، وفي سياقات جديدة.
أمّا "بيسان" فهي "كثيراً ما ترى في كوابيسها رجلاً يحمل بندقية قصيرة وثخينة القطر كأنّها مسدّس كبير (...) تشاهد في منامها هذا الرجل وقد وقف في حرم الجامعة، وبدأ يرشّ رصاصاته على الطلبة والطالبات، وهم يسقطون في أرجاء المكان الفسيح"، ص130. ومن المحتمل أن يشير الرجل إلى عدو خارجي يتمثّل في الاحتلال، وعدوّ داخلي يتمثّل في الذين يعادون فكرة التعليم بحدّ ذاتها، وما يجعلنا نميل إلى الرأي الثاني اختيار الحرم الجامعي ساحة للحلم، وهو فضاء حلمي يختلط الطلبة فيه بالطالبات، وربما كان الرجل الذي يغزو حلمها صورة مبتدعة تشبه أحد رجال فريق "التسامح" الذين منعوا "وائل" من الغناء في غزة.
وفي غياب الحدث المحوري تطل التفاصيل الصغيرة التي تسهم في تشكيل الشخصيات والأمكنة التي شكّلت حضوراً طاغياً؛ حيث رام الله، وحيث دوار المنارة تحديداً الذي يشكّل نقطة انطلاق نحو أماكن لها مرجعيتها التاريخية؛ فإذ يصل "عاصي" إلى شارع الإرسال يتذكّر الإذاعة الفلسطينية قبل النكبة، والهوائيّ (الأنتين) الذي اختفى، "إلا أنّه ما زال يراه بعين الخيال؛ لأنه يعني له: فلسطين أيام زمان"، ص111، وها هي ذي الذكريات تُنشر أمامه مثل حبل الغسيل: "ياه! الإذاعة الفلسطينية وإبراهيم طوقان والمذيعة هنرييت السكسك والشاعرة فدوى وكثيرون"، ص111. بينما تذهب ابنته "بيسان"، في لفتة توثيقية من ليانة "إلى مقرّ (الكمنجاتي) في مبنىً قديم في رام الله التحتا؛ لكي تتطوّع أيام العطل (...) رمزي ورفاقه أسسوا الفرقة، فصارت مقراً لتعليم الصغار الموسيقى"، ص129.
يبرز دوار المنارة إذاً، بنخلاته الهزيلة، وأسوده الحجرية الأربعة، ويتمّ تأثيثه بالشعارات؛ حيث "تتراكم العبارات السياسية التي خطّتها الأيدي منذ سنوات فوق الملصقات الانتخابية، التي تكاثرت واختلطت مع صور الشهداء على الجدران"، ص14. كما تظهر امتداداته باتجاه ميدان المغتربين أو ميدان ياسر عرفات، أو باتجاه شارع الإذاعة، أو شارع الإرسال. وتظهر المدينة التي تحمي نفسها من خلال وضع التكوّر الجنيني على الذات، فالتجوّل داخل المكان أكثر أمناً: "ما زال التجول داخل المدينة المهرب اليومي ممن الاكتئاب المزمن الذي يواجهه من يعيش على أرض هذه البلاد التي فقد أهلها عادة المشي على طرقاتها الخارجية، فقد صار الحذر رديفاً لوجود المستوطنين"، ص84.
وفي الفضاء الطباعي قدّمت ليانة بدر روايتها في ثلاثة فصول تتوزع على مئتين وثمانين صفحة، وتألّف كلّ فصل من مقاطع سردية، يختص كل منها، باستثناء الأخير، بشخصية محددة، ويمارس تمويهاً مقصوداً ملبساً، يصعّب مهمة القارئ في اكتشاف الشخصية التي يختص بها المقطع إلا بعد أن يقرأ عدة صفحات متوالية، وبتركيز عالٍ، وكان من الممكن للكاتبة أن تضع عناوين تؤشر إلى الشخصية غير أنها فضّلت ممارسة ذلك التمويه. وبشكل عام طغت على الفضاء الطباعي شخصية "نشيد" التي اختصّت بعشرة مقاطع سردية، يليها "عاصي" الذي اختص بستة مقاطع، بينما اختص كل من "خالد" و"بيسان" بمقطعين. ويمكن بشيء من التفصيل أن نشير شخصيتين تناوبتا على الظهور بشكل رئيسي في الفصل الأول هما "نشيد" و"عاصي"، على النحو التالي: نشيد/ نشيد/ عاصي/ نشيد/ عاصي/ نشيد/ نشيد. وأما الفصل الثاني فقد أضاف شخصيتين أخريين للمشاركة في احتلال المشهد السردي هما "بيسان" و"خالد"، وأفردت المقاطع السردية فيه الحديث عن الشخصيات، وفقاً للترتيب التالي: نشيد/ نشيد/ عاصي/ بيسان/ خالد/ نشيد/ عاصي، وقد تكرّرت الشخصيات الأربع في الفصل الثالث: نشيد/ خالد/ عاصي/ بيسان/ عاصي/ نشيد، وقد تقاسمت الشخصيات الثلاث خالد وعاصي ونشيد المقطع السردي الأخير، حين كانوا جميعاً أمام الحاجز.
وقد جاءت لوحة الغلاف التي طغى عليها اللون الأبيض موغلة في فلسطينيها، من خلال الإحالة على التراث الفلسطيني الذي تجذّر في نفس الكاتبة، ثم انتقل إلى شخصياتها وقارئيها. واستندت الكاتبة في بداية فصولها الثلاثة إلى عتبات شعرية للشاعر محمود درويش، بدت شديدة الصلة بمحتواها، ويمكن أن نكتفي، تمثيلاً لتلك الصلة، بعتبة واحدة، وللقارئ أن يقيس عليها؛ فقد صدّرت الكاتبة فصلها الأول بنص من قصيدة "خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة"، وهو:
"عاليةٌ روحنا عالِيَةٌ رُوحُنَا، والمراعي مُقَدَّسةٌ، والنّجومْ كلامٌ يضيءُ.. إذا أنْتَ حَدَّقْتَ فيهَا قَرأْتَ حكَايتَنَا كُلَّهَا: وُلدْنَا هُنَا بَيْنَ ماءٍ ونارٍ.. ونولَدُ ثانيةً في الْغُيومْ"، ص7.
وفي هذا الفصل دافعت عن الفلسطينيين الذين لن يستسلموا لمعاناتهم التي يمارسها ضدهم المستعمرون المغامرون الذين "أتوا من أحيائهم الهامشية في الغرب بحثاً عن الثروة والسلطة، حالمين بأن يكونوا اليانكي الأميركي الجديد الذي يسلخ جلود رؤوس الهنود الحمر الجدد، للحصول على أراضينا مجاناً"، ص42.
أما فيما يتعلّق بالزمن، فقد سبقت الإشارة إلى تكثيفه في أربع وعشرين ساعة، ومن الطبيعي أن تولّد التفاصيل والتداعيات والاستذكارات بطئاً في السرد. غير أنّ الكاتبة استخدمت في مقابل الاستذكارات تقنية زمنية ندر استخدامها في السرد العربي عموماً، وفي السرد الفلسطيني خصوصاً، وهي تقنية الاستباق، وقد غلب على الاستباق عندها الطابع اللغوي، باستثناء استباق واحد رسّخ لدى "بيسان" رؤية مستقبلية؛ فاستباقات "عاصي" عبرت عمّا (سـ) يقوم به في الغد، كما يبدو في السياقات التالية:
•    "غداً يستطيع الدخول للمرة الأولى بلا تصريح من الإدارة المدنية، لأنه سيعبر عامه الستين، فيذهب إلى القدس كي يفاجئ الست "لميس""، ص66.
•    "سيذهب طبعاً، وإلا فما فائدة التقاعد"، ص164
•    "كان ذاهباً إلى مؤسسته الإعلامية، وهو يذكّر نفسه بأنه سوف يودّع الدوام  فيها خلال أيام"، ص113.
•    "لم يكن يعرف أن القيامة سوف تقوم ولن تقعد قبل أقلّ من ساعتين، وعلى دوار المنارة تحديداً"، ص113.
أمّا "بيسان" التي خصصت الكاتبة لها استباقاً لغوياً حين أشارت إلى أنها ""سوف تذهب مع الفرقة عندما يلتقي الجميع، ويستطيعون الخروج إلى هنا. وسوف يغنّون جميعاً للملائكة الزرق الصغار الذين قُتلوا برصاص الجنود، وهم يحاولون إثبات حبّهم لفلسطين"، ص223، فهي تبدو أكثر ثقة بالمستقبل، وأكثر إصراراً على الوصول إليه، وهذا يناسب شخصيتها الثائرة؛ لذلك تفيض استباقاتها برؤية وأمل لا يخبو:
"سوف تندلع الانتفاضة المقبلة، لا بد. ربما بعد  عام أو أعوام، وحتى الألف، أو الألفية الثالثة بعد المئة. لا يهم متى، المهم أن تتحرر فلسطين.
ولسوف... تتحرر"، ص223.

 

تعليق عبر الفيس بوك