"فورين بوليسي": حرية الصحافة في أستراليا "على المحك"

ترجمة- رنا عبد الحكيم

في مطلع يونيو الجاري داهمت الشرطة مقر هيئة الإذاعة الأسترالية "ABC"، رغم أن أستراليا- من بعيد- تبدو واحدة من الديمقراطيات البرلمانية الراسخة في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وتعلي من شأن القيم الديمقراطية في الخارج، ولا يمكن اعتبارها من البلدان التي يتخيل المرء أن تقوم الشرطة فيها بمداهمة مكاتب الإذاعة الوطنية مع وجود أوامر بالتدقيق في رسائل البريد الإلكتروني السرية للصحفيين.

وبحسب تقرير لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، كانت تلك المداهمة ردا على سلسلة من سبعة أجزاء نشرت في عام 2017 حول جرائم حرب مزعومة ارتكبتها القوات الأسترالية الخاصة في أفغانستان بين عامي 2009 و2013. وكانت سلسلة التحقيقات رفيعة المستوى وصفت الجنود الأستراليين بأنهم "يتصرفون بطريقة لا تراعي قيمة الحياة البشرية"، إلى جانب نشر النتائج الرئيسية المستخلصة من وثائق الدفاع السرية. ورصدت هذه الوثائق العديد من الأنشطة البغيضة الأخرى كبتر الأطراف وإعدام السجناء وقتل الأطفال على أيدي القوات الأسترالية.

وكان نشر الوثائق المسربة على وجه الخصوص هو الأمر الذي أثير غضب الشرطة، على الرغم من أن هيئة الإذاعة الأسترالية نشرت جملا مختارة فقط من الوثائق دون التعرض لأي معلومات شخصية. وتثار مزاعم بأن المعلومات تم تسريبها على يد المدعي العسكري السابق ديفيد ماكبرايد. وبصفته عضو ادعاء يعمل مع قوات الدفاع الأسترالية في أفغانستان فقد وجد أدلة على أن الجنود الأستراليين ينتهكون القانون الدولي. وصُنفت المعلومات على أنها "سرية" ووضعت علامة "AUSTEO" أي أنه غير مسموح بقرائتها سوى "العيون الأسترالية فقط".

وترى المجلة أن تقييد سرية هذه الوثائق أمر مشكوك فيه في المقام الأول، إذ كانت فرقة العمليات الخاصة الأسترالية تعمل في بيئة متعددة الجنسيات، لذلك ثمة أسباب حقيقية تدعو إلى اطلاع الشركاء الآخرين في أفغانستان (على سبيل المثال، الجيش الهولندي، الذي شارك فيه الأستراليون) على تفاصيل العمليات، والتي شهدت مقتل مدنيين.

ومن المرجح أن يواجه مكبرايد تهمة نقل الوثائق إلى صحفيين دون إذن، لكن ما هو غير متوقع أن الشرطة الأسترالية اتجهت لمعاقبة ليس فقط مصدر التسريبات ولكن أيضا الصحفيين الذين تحدثوا عن تلك الوثائق؛ وهم: دان أوكس وسام كلارك، وهما من كبار الصحفيين في وحدة التحقيقات التابعة لهيئة الإذاعة الأسترالية.

وقد مر على قضية التسريب عامين حتى الآن، واعترف ماكبرايد منذ فترة طويلة بتسريب الوثائق، ومع ذلك اقتحمت الشرطة مؤخرا مقر الإذاعة، ومعها تقنيات رقمية حديثة تتيح لها صفح البريد الإلكتروني الخاص بالصحفيين.

وتأتي المواجهة مع هيئة الإذاعة أيضًا في أعقاب الانتخابات الفيدرالية الأسترالية، والتي شهدت انتخاب حكومة رئيس الوزراء سكوت موريسون اليمينية. وفي بعض أجزاء ولاية كوينزلاند المتأرجحة، تحرك الناخبون صوب اليمين، كما يتضح من التصويت الأساسي المتنامي للأحزاب اليمينية المتطرفة. وقد تأثر ذلك، على الأقل جزئيًا، بالمشاعر المعادية لوسائل الإعلام. ويبدو أن هيئة الإذاعة الوطنية- التي تعد هيئة عامة- تتجه نحو خفض تصنيفها.

وبقدر ما تكون هذه السلسلة من الأحداث مثيرة للقلق بالنسبة لحرية الصحافة، فمن المحتمل أن تتصاعد الأمور. وأثارت القضية نقاشًا عامًا حول ميثاق الحقوق والحريات للمواطنين الأستراليين، وهو مشروع تشريعي قديم لا يزال غير مكتمل. وعلى عكس الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، فإن الحماية الأساسية مثل حرية التجمع وحرية الصحافة لم يتم تكريسها قانونًا باعتبارها "حقوقًا" في أستراليا، بما يتجاوز الإجماع العام على أن الصحافة الحرة تخدم المصلحة العامة.

ثمة نقاشات أخرى متزايدة حول مدى ملاءمة تصنيف الهيئات الأسترالية عندما يُحتمل تورط هيئة ما- في هذه الحالة، فريق العمليات الخاصة الأسترالي- في نشاط إجرامي. وكتبت جاكلين مالي الصحفية في صحيفة "سيدني مورنينج هيرالد"، عن التحسس المفرط من جانب الحكومة الأسترالية تجاه تصنيف السرية وقالت: "من المفترض أن نضفي قدسية كبيرة على نوع التصنيف". وأضافت "يمكن للحكومة أن تضع تلك التسمية على أي شيء تريده منع نشره".

في الواقع، وفيما يتعلق بـ"الملفات الأفغانية"، فإن مهمة أستراليا القتالية في أفغانستان انتهت منذ سنوات. وأي مخاوف أمنية قائمة، في معظمها، باتت من الماضي. وتشير المجلة إلى أن الأخطاء المزعومة لفريق العمليات الخاصة الأسترالي هي الآن محل تساؤل المؤرخين، وليس القادة الذين يحاولون إدارة العلاقات العامة داخل المشهد الأسترالي. وفي النهاية، لا ينبغي السماح لأي حكومة بالاحتفاظ بسلوك إجرامي إلى الأبد.

تعليق عبر الفيس بوك