علي بن مسعود المعشني
حين كنت في مرحلة الاعتقاد بأنَّ الديمقراطية والتنمية هما خياران وطنيان بامتياز لدولة الاستقلال العربي، كان الدكتور عبدالله فهد النفيسي من كوكبة الكتاب الذين أحرص على القراءة لهم ومتابعة إنتاجهم الفكري سواء في بطون الكتب أو على صفحات الصحف أو حواراتهم على شاشات التلفزيون، كون المذكور بالنسبة لي له تجربة تعليمية وحياتية و"نضال" فكري خاص به عمده ودفع ثمنه بالاغتراب والهجرة وسحب جنسيته الكويتية.
وفي مرحلة تالية عرفت الدكتور النفيسي ككاتب باحث وناقد للموروث الإسلامي في الحكم، ثم كباحث شغوف في الشأن الإيراني بعد الثورة، حيث كان قريبًا جدًا من التجربة الثورية في إيران وكثير التردد على طهران إلى درجة الشبهة من قبل البعض من المتربصين به.
وفي محنة الكويت بالاحتلال العراقي لم أرصد بكائيات للدكتور عبدالله النفيسي كغيره من بعض النُخب الكويتية ممن سقطوا سقوطًا مريعًا بفعل الغزو وتحولوا إلى نائحات بامتياز، حيث تخلوا وتنكروا لكل موروثهم ورصيدهم الشخصي خلال 48 ساعة فقط وهو الزمن الفاصل ما بين يوم 1 و2 أغسطس يوم الغزو.
حين أتابع اليوم تغريدات أو أحاديث للدكتور عبدالله النفيسي أصاب بالفصام والصدمة معًا وأتساءل في نفسي وبصوت عالٍ أحيانًا عمَّا أصاب الرجل ودهاه في فكره وقناعاته وسيرته، وكيف تحوَّل من شخص أكاديمي نخبوي يحمل رسالة التنوير والسعي نحو الحقائق العلمية المجردة إلى شخص طائفي تحريضي ضحل في تحليله وربطه واستنتاجاته!؟
حين يعود بي الفكر إلى تجربة جلال الدين الرومي وتحوله من قاضي قضاة قونية بتركيا إلى "درويش" متصوف يبحث عن الحقيقة وتزكية النفس، أتذكر قصته الأولى وحواره مع أحد "دراويش" الصوفية بمدينته قونية والذي اشترط عليه بيع الخمر في طرقات وأزقة المدينة أولًا كأول اختبار له عن مدى استعداده لتزكية النفس عبر تحطيم شخصية قاضي القضاة أولًا ثمَّ البناء على أنقاضها شخصية النفس المطمئنة ومراتب النفس التالية. وحين قبل ابن الرومي التجربة بعد تردد كبير وأمام إصرار معلمه "الدرويش" هذا الاختبار دون غيره صعق النَّاس في قونية من قيام قاضي قضاتهم ببيع الخمر في الطرقات وانقسموا حوله، فمنهم من وصفه بالجنون لا محالة وأشفق عليه، ومنهم من قطع بفساده الباطن في السابق وظهوره اليوم بلا تورية أو تقية.
والحقيقة أن اختبار ابن الرومي ليس ببعيد عن إسقاطات اليوم على جملة من النُخب من حولنا والذين لم نعد نعلم كيف يُمكن أن نصنفهم، هل أصابهم مس من الخرف أم أنهم كانوا يمارسون التقية والتورية علينا فيما مضى من الزمن.
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو مُتابعتي لمقطع مصور للدكتور عبدالله النفيسي يتحدَّث فيه عن ما أسماه بـ"الخطر الشيعي" على أقطار الخليج من إيران وشيعة الخليج والحوثيين كما أسماهم؛ حيث ذكر النفيسي أنَّ هناك دفعات من الشيعة يتنقلون من أقطار الخليج إلى صعدة في اليمن ثم يتم نقلهم عبر الحوثيين إلى أرخبيل جزر دهلك بإريتريا للتدريب على أيدي ضباط من الحرس الثوري الإيراني ثم يتم إعادتهم إلى أقطارهم!!
الحقيقة أنَّ أول ما صدمني في حديث الدكتور النفيسي ليس خياله الواسع في حبك هكذا قصص وتأكيده على أنَّ الحوثيين يستهدفون احتلال مكة والمدينة ولا ذكره للسلطنة بـ"سلطنة مسقط"!! بل تلذذه بما يقول من شحن طائفي لا يليق بتاريخه ولا بمكانته العلمية حتى وإن افترضنا صواب ما يقول فدوره وأمثاله عادة إخماد الفتن لا تأجيجها وإماتة الباطل بعدم ذكره!! فالصادم لي هو كيف لعبدالله النفيسي أن يعلم كل هذه التفاصيل دون حكام وحكومات ونُخب الخليج قاطبة!؟ وكيف لعقل أن يستوعب هذه القصة المختلقة بأن أقواماً من الشيعة يذهبون إلى صعدة ثم جزر دهلك وفي زمن حرب يرصد فيه التحالف والكثير من القوى العظمى كل شاردة وواردة في اليمن والبحر الأحمر!؟ ولماذا "الترانزيت" في صعدة يا دكتور دون غيرها وهي منطقة جبلية وعرة ومغلقة من البحر وهدف عسكري دائم لقوى التحالف!؟ ولماذا لا يقصدون مناطق يمنية ذات منافذ بحرية تقع تحت سيطرة "الحوثي"!؟ ولماذا لا يقصدون جزر دهلك مباشرة ويختصرون الطريق على أنفسهم !؟ ولماذا لايتم تدريبهم في أماكن أكثر أمنًا وقربًا من صعدة وجزر دهلك يا دكتور!؟
الحقيقة أنَّ قصص الدكتور عبدالله النفيسي تعود بي إلى روايات حصول الحوثيين في اليمن على الصواريخ رغم الحصار المطبق على اليمن برًا وبحرًا وجوًا كرواية: الصواريخ الإيرانية التي تُصنع في الضاحية الجنوبية لبيروت على أيدي عناصر من حزب الله ثم يتم نقلها إلى سوريا وتوضع عليها صور الرئيس بشار الأسد وتنقل بعد ذلك إلى إيران ومنها إلى "الحوثيين" من بندر عباس إلى السواحل اليمنية!!
الغريب أنهم يعرفون كل القصة ولكنهم لم يتمكنون من ضبط شحنة واحدة، تمامًا كقصة الوجود الإيراني في اليمن دون وجود قتيل أو أسير إيراني واحد منذ بداية الحرب، والأغرب من كل هذا أنَّ هذه الصواريخ الإيرانية تتلاشى بعد كل عملية استخدام وتحترق بالكامل عدا صورة الرئيس بشار الأسد عليها ومكان الصنع!!
ما يهمني هنا هو تفنيد قصة أرخبيل جزر دهلك والتي تسيطر عليها في الحقيقة ما تسمى بإسرائيل (تقيم عليها قواعد عسكرية ونُظم تجسس ومزارع إنتاجية) ومنذ "صفقة" استقلال إريتريا عام 1991م وبالتزامن مع خروج العقيد منجستو هيلي مريم من السلطة في أثيوبيا ولجوئه إلى زيمبابوي وتولي كل من ملس زيناوي للسلطة في أثيوبيا وأسياس أفورقي للسلطة في إريتريا وهما بالمناسبة أبناء خالة وشركاء نضال فيما مضى من الزمن. فمن تسعفه ذاكرته القريبة يتذكر أنَّه بعيد إعلان استقلال أرتيريا قام أفورقي بزيارة مُعلنة للكيان الصهيوني وافتتحت السفارات بينهما، ولم يتقدم أسياس- وكما كان مفروضًا ومتوقعًا- بطلب انضمام بلاده إلى جامعة الدول العربية رغم دعم العديد من الأقطار العربية للقضية الأريترية خلال عقود نضالهم.
أرخبيل دهلك:
"عدد الجزر (126) جزيرة اثنتان منها جزر كبيرة وهي دهلك الكبرى ونهلق، تشتهر هذه الجزر بصيد اللؤلؤ من الحقبة الرومانية وما زالت تنتج كميات كبيرة منه، من أصل (126) جزيرة أربع جزر فقط تُسكن وبشكل دائم وهي دهلك الكبرى وهي الأكبر والأكثر سكاناً ونهلق ونورا وحرمل الحياة البحرية المتنوعة والطيور البحرية تجذب العديد من السياح، ويقطن هذا الأرخبيل من (2500) إلى (3000) نسمة ويمتهنون صيد الأسماك والمرجان واللؤلؤ بالإضافة إلى تربية الماعز والجمال واللغات السائدة هي التغري والعفر ولغة الدهالكة ويمكن الوصول للجزر عن طريق ميناء مصوع". (ويكيبيديا الموسوعة السياسية).
العلاقات الأريترية الإسرائيلية:
"كشفت وكالة استخبارات مدنية أمريكية أن لإسرائيل وجود عسكري في دولة إريتريا المجاورة للسودان، وصفته بأنه "صغير لكنه ذو مغزى". ونسب مركز ستراتفور للدراسات الإستراتيجية والأمنية- وهو أحد أهم المؤسسات الخاصة التي تُعنى بقطاع الاستخبارات- إلى مصادر دبلوماسية وإعلامية القول إن إسرائيل تعمل داخل إريتريا ولها وحدات بحرية صغيرة في أرخبيل دهلك وميناء مصوع، ومركز للتنصت في جبال أمبا سويرا. وأضاف المركز في تقرير تحليلي أن الوجود الإسرائيلي يهدف بوجه خاص إلى جمع معلومات استخبارية لرصد نشاطات إيران في المنطقة وغيرها من تحركات معادية لها في البحر الأحمر. وأفادت صحيفة معاريف الإسرائيلية، في إطار تناولها لتقرير ستراتفور، إلى أن الهدف الأساسي من هذا الوجود في أغلب الظن هو متابعة السفن التي تبحر نحو السودان لتقوم من هناك بتهريب معدات حربية إلى قطاع غزة". (موقع الجزيرة نت).
قبل اللقاء: "الحقيقة أولى ضحايا الحروب". وبالشكر تدوم النعم.