رواية "اليد الدافئة" ليحيى يخلف (4-4)

...
...
...


أ.د. يوسف حطيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

من تداخل الحكايات إلى أسطرة السرد
ثالثاً ـ من إيقاع الشخصيات إلى إيقاع اللغة:
من شخصية أحمد نبتدئ؛ حيث يكتشف أن المتقاعد يصبح مثل "بغال مخيم اليرموك" التي تمّ الاستغناء عنها في نقل القمامة، إلى نقل القمامة بالسيارات "فقامت بلدية اليرموك بوضع العربات المهترئة في مخازنها، وأطلقت سراح الأحصنة والبغال التي شاخت ولم تعد تصلح حتى للبيع"، ص15.
في هذا الملل القاتل؛ حيث توفيت زوجته جميلة، وسافرت ابنته ياسمين إلى الإمارات مع زوجها، كان لابد من "سد الفراغ" بالنوم والتلفزيون، وهي أمور تضيّع الوقت، ولا تسدّ فراغ الروح، فلجأ إلى الكتابة، وطلب منه صديقه الدكتور نادر أن يخرج من عزلته، مستفيداً من كل شيء حوله: "انظر إلى تلك المائدة، شاب وصبية، وانظر إلى تلك المزهرية أمامهما، هناك وردة حمراء (...) افتح صدرك واملأ رئتيك بالهواء النقي"، ص51؛ لذلك كان لا بدّ من نيرمين، بعد أن تركته جميلة، وهي في التاسعة والأربعين؛ حيث داهمتها ذبحة قلبية أدت إلى وفاتها. وقد انتقلت علاقته بجميلة من الحب الكبير؛ إذ كان في بداية الرواية "ينظر إلى صورة جميلة المعلقة أمامه على الجدار، فتبجس من عينيه دمعتان"، ص14، ويتذكّرها " حنونة ودافئة، تلبس له في البيت أجمل ثيابها، تتزين له، وتضع مكياجاً خفيفاً، وتحرص على رش العطر الخفيف، وتمنحه رحيق روحها الأجمل"، ص31. غير أنه يشعر بالحرج من نظرة جميلة في الصورة، حين تبدأ نيرمين بمشاغبة قلبه: "لا تستطيع، رغم ترحيبك بصداقة جديدة، أن تنظر إلى جميلة في إطارها المعلق على حائط الصالون، أتراها تنظر بعتب؟"، ص97، وتتحول هذه النظرة إلى عتب حقيقي حين يصارح روحها بانصراف روحه إلى نيرمين: "تحدثتُ مع جميلة المعلقة على الجدار في إطارها. قلت ما يجب أن يقال. وكنت كلّ يوم أقرأ ما في عينيها من لوم وعتاب"، ص247.
أمّا نيرمين التي رآها أحمد أول مرة في مقهى بيتسو، فهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان، وتنحدر من عائلة مقدسية، وتشارك في الفعاليات الشعبية المختلفة: "كانت وسط مجموعة من المتظاهرين تهتف وتلوّح بالعلم. كانت الشمس، رغم القبعة التي تضعها فوق شعرها، قد حوّلت خدّيها إلى تفاحتين"، ص39.
احتاج أحمد دفء العائلة، وهو يعرف أنّ ابنته ياسمين التي كانت تتصل به من الإمارات بين وقت وآخر تحبّه، وكان "يحادث صورتها وهي في ثياب الزفاف مع عريسها"، ص15، ولكن ماذا لو أخبره عن عشق نيرمين: "ماذا ستقول ياسمين عندما تخبرها أنّ برعماً نبت على وردة قلبك؟ أتراها تقول إن التّصابي أردأ من المراهقة؟"، ص97.
ولكنه لم يكن يتوقّع في أكثر أحلامه تفاؤلاً أن تقدّم ياسمين لهما خاتمي الخطبة، في عرس أبو الخير وجبينة، وأن يتمكن من تحقيق أمنيته في الاقتران بها، كما يؤكد السياق النهائي في الرواية، وهو سياق لا يقتصر، كما نلاحظ، على فرح فردي، بل ينفتح على فرح يشمل الناس والأرض والحكايات ذوات النهايات السعيدة:
"وعادا يداً بيد إلى حيث الطبل والزمر والضجيج والفرح، وياسمين، وخليل، والخال، وعرس الشجر، والصخور التي نحتتها الرياح، والحنون والنرجس، وعسل السدر، والشاطر محمد، وحديدان، ونص نصيص، وجؤذر، وجبينة، وأبو الخير، والنهايات الممكنة، وخبطات الأقدام في الدبكة التي توقظ الأرض الطيبة من سباتها"، ص ص262ـ263.
أما هياتارو التي يعني اسمها باليابانية الخنفساء فقد استحقت لقب (الشعنونة)؛ لأنها كانت مشاغبة ورعناء ولا تهدأ، ويحبها الجميع، وهي مناضلة أممية، يقول عنها خليل أخو نيرمين: "هياتارو عفريتة مندمجة في حركة التضامن، وتشارك في نشاطاتهم، وقد عرّفوها على العديد من مقابر الأرقام السرية"، ص125، وهي تسأل أحمد عن مقبرة أرقام، كتب عنها، و"تضم رفات فلسطينيين قتلوا من قبل الجيش الإسرائيلي، ولم تسّلم جثامينهم، ودفنوا في مقبرة، ووضعوا لكلّ منهم رقماً"، ص72، وقد وصفت عدداً من مقابر الأرقام "التي تتعرض للانجراف من الامطار والسيول، وتطيح بلوحات الأرقام، وتكشف عن عظام الشهداء، وتجعلها نهباً للذئاب والكلاب المسعورة. كتبت عن هول ما رأت، وأرسلته إلى الصحيفة اليابانية التي تراسلها"، ص136.
ربما لم يعجبها لقب (الشعنونة)، مثلما لم يعجبها اسمها العربي (هيا) الذي يشكّل نصف اسمها الحقيقي، وهي ترغب باسم شهرزاد، أميرة ليالي العرب، وهذا ما يثير نيرمين التي تخاطبها قائلة:
"لكن شهرزاد لها وجه حنطي وشعر كستنائي، وانت لون بشرتك أصفر، وشعرك قصير كشعر الصبيان، ولها عينان واسعتان، وأنت عيناك ضيقتان، ولها جسد ممتلئ مكتنز وقامة عالية، وانت طولاً وعرضاً بحجم قبضة اليد، ولها صدر عامر بنهدين مثل رمانتين، أما أنت فصدرك ممسوح، ونهداك بحجم ليمونتين"، ص87.

وإذا كان الروائي قد نجح بتقديم أوصاف شخصية هياتارو من خلال الفعل السرد، فإنه يقدم شخصيات خارج هذا الفعل، على نحو ما نجد في وصف سيدة الشرفة أم جليل، في حالة توقف سردية، حيث يحكي له أبو عمر حكايتها:
•    "سيدة أرملة في العقد الخامس، جارة محترمة، توفي زوجها منذ عشر سنوات، وخلف لها ولداً واحداً، الولد اسمه جليل، كرّست حياتها لوالدها، وربته أسن تربية"، ص121.
•    "سيدة جميلة، تقدّم لها كثير من الرجال من ذوي المناصب المعتبرة، لكنها رفضت الزواج من أجل أن تربي ولدها"، ص121.
ويلاحظ في بناء شخصيات هذه الرواية أنّ عدداً منها ينتقل من التشخيص بالاسم إلى التشخيص بالشعار، بمعنى أنّ التسمية التي تعدّ شكلاً من أشكال التشخيص تفسح الطريق للشعار من أجل القيام بدورها؛ إذ ينوب الشعار الذي يلازم صفات محددة مناب التسمية في كثير من الأحيان، فثمة في هذه الرواية ارتباطاً عضوياً بين أم جليل والشرفة، فهي سيدة الشرفة، أما نيرمين، فهي سيدة الرائحة في الجزء الأول من الرواية، وذات اليد الدافئة في جزئها الثاني، وتشغل قطعة الشكولاتة أو الكاكاو مكان صوفي، بينما تحصل هياتارو اليابانية/ على شعار (الشعنونة) التي تعني باللهجة الفلسطينية الجميلة الشقية المشاغبة التي لا تهدأ، والتي يحبّها الجميع، ويمكن للمرء أن يلاحظ هذا الأمر ببساطة عند الحديث عن الشخصيات، على نحو ما نجد في السياق التالي: "كان قد أفرغ شحنة دفعته للكتابة، وشعر أن الشحنة تتجدد، فقرر أن يواصل كتابة حكاية سمعان البغل، وصوفي قطعة الشوكولاتة"، ص82.
غير أنّ ما يلاحظه القارئ هو إصرار السارد على لزوم صفة محددة لشخصية من الشخصيات؛ بحيث يتكرر ذلك إلى حدّ أن يشكّل إيقاعاً، على نحو ما نجد في شخصية نيرمين التي تصبح رائحة عطرها جزءاً لازماً لشخصيتها؛ أو تصبح شعارها، ويمكن أن نشير إلى السياقات التالية، على سبيل المثال، لا الحصر:
•    "من موقعه القريب شمّ رائحة عطرها.. منذ زمن طويل لم يشم رائحة امرأة"، ص24.
•    "حاول أن يشغل نفسه ويطرح المخبّأ جانباً، وأن ينحّي سحر رائحة عطر لم تتسلل إلى حواسه منذ سنين"، ص30.
•    "رفعت بيدها خصلة من شعرها تدلّت على جبينها. عند ذلك شمّ ذلك العطر المذهل والمبهر الذي سكن حواسه ولم يبرحها"، ص89.
•    "مشى إلى جانبها، ومن جديد، كان عطرها يرسل ما يشبه الرذاذ إلى روحه"، ص90.
•    "أصبحا وجهاً لوجه، شم رائحة عطرها"، ص92.
•    "كانت مكالمة بمثابة بسط حبل الود، وأثناء ذلك حضر عطرها في ذاكرته"، ص104.
حتى إنّ غياب العطر في موقف ما يصبح شيئاً غريباً، ويجب التنبيه عليه، فعندما يداهمه المرض ويذهب للمشفى تزوره نيرمين، ويشعر أنّ حضورها ناقص، بسبب غياب روائح العطور عن المكان، بقوة شيوع رائحة التعقيم: "لم يشمّ عطرها، فرائحة التعقيم للمكان تحجب ذلك، لكن وصلته رائحة من جمال روحها"، ص63.
وابتداءً من منتصف الرواية يتسللّ إيقاع آخر، مرتبطاً بشخصية نيرمين على حساب الرائحة: إنه إيقاع اليد الدافئة التي تعني أحمد في احد سياقاتها، ولكنها ترتبط بنيرمين في السياقات الأخرى:
•    "خرج محزوناً وقال لنفسه إنه بحاجة إلى يد دافئة. أخرج هاتفه النقّال "، ص123.
•    "ـ أتحتاجين يداً دافئة حنونة؟
•    نظرت إلى عينيه المغرورقتين بدمعة، وهزّت رأسها فيما انبجست من عينها دمعة، وكادت تجهش بالبكاء، فأخرجت منديلها، ومسحت عينيه، وقالت: نعم، أحتاج"، ص123.
•    "ما أحوجني إليكِ أيتها اليد الدافئة"، ص232.
•    "مدت له يدها الدافئة، فتلقفها وأحسّ بها تنبض في كفّه، كما لو أنها عصفور"، ص124.
•    "دعته اليد الدافئة لزيارتها في البيت"، ص133.
•    "فوجئ أحمد، لم يكن يتوقّع أن تكون الدعوة دعوة مناسبة، زأن تكون مناسبة عيد ميلاد اليد الدافئة"، ص139.
•    "من غيرك أيتها اليد الدافئة يمكن أن يلملم مزق الروح، ويجمع شعث النفس الحائرة"، ص190.
•    "وبدا كما لو أنّها تمدّ له يدها الدافئة، وتنتشله من بئر أحزانه"، ص194.
ومن الطريف أن يجتمع الإيقاعان مرة واحدة؛ ربما لتذكيرنا أن نيرمين التي حضرت يدها الدافئة؛ لتنتشل أحمد من أحزانه لا تفقد إغواء عطرها أبداً:
•    "وانحنت تضيّفه، كانت قريبة منه، شمّ عطرها، ودّ لو مدّت له يدها الدافئة ليحتضنها، كان بحاجة ليد دافئة"، ص135.
فإذا انتقلنا من إيقاع الشخصيات إلى إيقاع اللغة، وجدنا طغيان إيقاعين اثنين، هما إيقاع التناص، وإيقاع البيئة الشعبية ومتعلَّقاتها من أغانٍ وأمثال و"خرّافيّات" وعادات وغير ذلك. ففي الإيقاع الأول نجد إحالات غنية إلى نصوص أخرى، موظفة سردياً، بعضها ينفتح على التراث الفلسفي والأسطوري العالمي من مثل الإشارة إلى ديوجين ويولسييز، وبعضها الآخر ينفتح على التراث الأدبي العربي، من مثل الإحالة إلى ديك الجن الحمصي، وأبي البقاء الرّندي، وللقارئ أن يجد تلك الإحالات فيما يلي:
•    "لماذا يحمل ديوجين فانوسه في نهار شديد العتمة"، ص42.
•    "حان لك أن تعود إلى مملكة جؤذر، ذلك اليوليسيز الذي عاد من بحور الظلمات إلى نور شمس وطنه"، ص182.
•    "ظلّ يحدث نفسه حتى اغرورقت عينا جميلة بالدموع، ص43.
•    "يا لهذه الدنيا التي نتغنى بحلاوتها التي لا تدوم! من سره زمن ساءته أزمان، ص48.
وقد حضرت البيئة الشعبية من خلال الأطعمة والأزياء (ما كانت تلبسه هياتارو في المناسبات)، ففي مطعم شعبي يتغدى فيه أحمد والدكتور نادر "كانت أطباق السلطة الإغريقية، والحمص البيروتي، والجبنة النابلسية، والبابا غنوج، وخبز الطابون المحمّص"،ص50. وفي بيت نيرمين، حضر الطعام الذي أعدته هياتارو؛ إذ جلس الجميع إلى المائدة، و"أكلوا واستعانوا بالعيدان، ويا للعجب! فقد أتقن احمد استعمال العيدان كملعقة وهو يتناول الرز المطهو على البخار، وقطع السوشي مع صوص الصويا، في حين أنّ نيرمين لم تتقن ذلك تماماً"، ص93.
كما حضرت مفردات أخرى على صلة وثيقة بالبيئة الفلسطينية مثل "فركة كعب" التي تشير إلى قرب المكان، والزمزميّة التي يوضع فيها الماء (مشتقة من ماء زمزم)، والميرمية التي يعدّ شرب مغليّها الساخن جزءاً من الشخصيّة الفلسطينيّة:
•    "يتعين علينا أن نكمل الطريق مشياً، نصعد هذه التلة ونصل إلى الأرض. يعني فركة كعب"، ص168.
•    "اصطحب معه زمزمية الماء التي لا تفارقه"، ص166.
•    "عرفها من رائحتها، فقد كانت الميرمية، وما زالت، جزءاً من مؤونة البيوت في فصل الشتاء (...) قطف عرقاً منها، ورفعه إلى أنفه، وشمّه بتلذذ"، ص209.
كما تحضر تقاليد العرس الفلسطيني بتفاصيلها، ففي عرس أبو الخير على جبينة، تحضر الجاهة والأغاني الشعبية، وتحضر العروس جبينة وخرّافيتها، إضافة إلى عازف اليرغول، وضارب الطبل، والمناسف، وهو ما يمنح العرس هوية حضارية ناجزة، تنتقل من جيل إلى جيل؛ بحيث لا يستطيع المحتلّ اقتلاعها.
ويمكن لنا أن نختم هذا التطواف في رواية "اليد الحانية" بجزء من أغنيةٍ تستثمرهما الرواية في العرس، تؤصل تراثنا العربي الفلسطيني؛ لعلنا نسهم بجزء من واجبنا تجاه تظهير هذا التراث الذي يمنح الشعب العربي الفلسطيني حصانة حضارية:
"دير المَيّة ع السرّيس/ مبارك عرسك يا عريس/ دير المَيّة ع الليمون/ مبارك عرسك يا مزيون"، ص254.

................
هوامش:
(1)     الشّعار: هو طريقة من طرق التّشخيص، يتمّ خلالها الإلماح إلى سمة محدّدة بشكل يترافق مع ذكر شخصيّة دون غيرها، وبذلك يصبح سمة لازمة لها؛ كأن نذكر عند تقديم شخصيّة معينة عبارة مثل (الرّجلُ ذو الأنف الطّويل) في أكثر من سياق سرديّ. ولعلّ من أشهر الأمثلة شخصيّة ليلى (ذات القبّعة الحمراء). تمكن مراجعة كتابنا:
(2)     مصطلحات السرد في النقد الأدبي الحديث، مرجع سابق، ص150.
(3)      ديوجين: فيلسوف يوناني (نحو 421 - 323 ق. م( آمن بأنّ الحكمة لا تتحقق إلا بالحرية، ونظّر للاكتفاء بالذات عن الآخرين، وعاش فترة من حياته في برميل. كان يجوب شوارع أثينا وأزقّتها حافي القدمين، مرتدياً ثياباً رثّة، مستندا إلى عصاه، حاملا في يده قنديلا متقدا. حينما سأله أحدهم: لمَ توقد القنديل، ونور الشمس يلف المكان؟ كان جوابه: أنا أبحث عن الإنسان.
(4)      يولسييز، أو أوذيس، أو أوديسيوس: هو ملك إيثاكا، وبطل الأوديسة المشهورة، خاض كثيراً من المغامرات البحرية، وحارب الآلهة في الأسطورة الرومانية، وقد أشيع أنّه مات، لكنه عاد إلى زوجته بينلوب أخيراً، وقتل الطامعين بها. أمّا زوجته فقد رفضت جميع المتقدمين لها في غياب زوجها، وكانت تعد خطّابها أن تفكّر بالزواج عندما تنتهي من نسج ثوبٍ، كانت تنسجه في النهار وتنكثه في الليل.
(5)     تتناص هذه العبارة مع بيت ديك الجن الحمصي الشهير: حكّمتُ سيفي في مجال خناقها/ ومدامعي تجري على خدّيها.
(6)      الإحالة واضحة هنا إلى بيت من قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس، وهو: هي الأمورُ كما شاهدْتها دولٌ/ من سرّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ.

 

تعليق عبر الفيس بوك