د. عبدالله باحجاج
لقي مقالنا الأخير المعنون باسم "الشركات الحكومية الخاسرة" صدًى وردود فعل واسعة، وقد تفاعلت معه نخب اقتصادية وبرلمانية، ولن نتوقف عند قارعي طبول الخصخصة على مصاريعها؛ وإنما عند الآراء التي نرى فيها إدراكا رفيعا بماهية دور الدولة الذي ينبغي أن تتبناه الحكومة؛ لإدارة الاقتصاد والتنمية، من منظور خصوصية الديموغرافيا العمانية، وهذا البعد لدولة كبلادنا لا ينبغي أن تتجاهله في مساراتها الاقتصادية والتنموية الجديدة، بمعنى لا يمكن أن تصبح ليبيرالية كاملة.
لماذا؟ لأنّ هذا سيعري مجتمعها من أية حماية للدولة، وستتركه لصراعات المصالح الخاصة المحلية وعابرة الوطنية، ومستهدفيها – أي الوطنية – ودون شك ينبغي أن نخشى على هذا البعد من استهدافات جديدة قد أصبحت قريبة جدا من جغرافيتنا الوطنية، لذلك لا اشتراكية ولا ليبيرالية لمفهوم الدولة، وإنما دولة لها التزام كبير بالمسؤولية الاجتماعية، وإحساس عميق بها تاريخيا وجغرافيا.. وإذا ما تمّ احتواء هذه الحمولة، لا يهمنا هنا التسميات بقدر ما يعنينا المضامين وتطبيقاتها.
وكل من شرف بخدمة الوطن والمواطن، فعليه لزاما أن يضع نصب عينيه هذه الثنائية المتلازمة "الوطن والمواطن" وتعزيز تناغمها المتبادل، بأشكال عصرية تعيد إنتاج الديموغرافيا الفعالة والمنتجة، ليس من منظور مرئيات وسياسات صندوق النقد والبنك الدوليين وإنما من منظور مركزية البعد الاجتماعي في الدولة العمانية، وهذا ما نحمل هاجسه دائما، وهو الغائب في الكثير من تحولات الدولة الاستراتيجية الجديدة.
وقد كان مقالنا السابق ينصب هاجسيا حول هذه القضية، فثروات الدولة وأهم مواردها تتعرض لضربات متتالية من الخسائر المتعددة من قبل أغلبية الشركات الحكومية، ولا نرى عاجلا أية مبادرة حكومية لإنقاذها، كل ما نسمعه من كبار المسؤولين المعنيين استخدام عبارات مستقبلية للحل، فهل لأنّها أموال وثروات عامة؟ ولو كانت ثروات خاصة بهم، فمن المؤكد، ويقينا، أنهم لن يصبروا على الخسائر بضعة شهور، فكيف بعقود؟ وكيف إذا كانت خسائرها بالمليارات في وقت يشد الخناق المالي على المجتمع؟
ومن بين الحلول التي يلوحون بها، وكشفها لنا مصدر مطلع وبارز بُعيد مقالنا السابق، إصدار قانون للشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإقامة هيئة تشرف على مشاريع الشراكة، كما اقترح مجلس الشورى في قراءاته لمشروع هذا القانون تأسيس رقابة على هذه المسارات الجديدة، رغم أن أحد أعضاء الشورى البارزين كانت له رؤية مستفردة، وقد وافقه عليها شخصية اقتصادية بارزة، وهي عدم تمركز الرقابة الواحدة على الشراكة والتخصيص، ويرى ضرورة ثنائية الرقابة عليهما لدرجة المخاطر.
لكن متى سترى النور مثل هذه التطورات؟ والأهم التطبيق، فتاريخنا مع الهيئات والمراكز معظمها ليست إيجابية، ومن المؤكد أنّها ستصطدم بازدواجية السلطتين للمسؤول الواحد، سلطته في وزارته وسلطته في شركته، لكن تظل رهاناتنا هنا قائمة على قوة الرقابة ونزاهتها وفعاليتها واستقلاليتها ومدى تمتعها بالفارق الذي يجعلها سلطة متحررة من نفوذ وضغوطات اللوبيات.
لكن، وحسب اطلاعنا على معلومات منشورة فإنّ الشراكة الجديدة بين الحكومة والقطاع الخاص ستستهدف تنفيذ المشاريع الإنتاجية الجديدة في القطاعات الواعدة؛ التي في الخطة الخمسية التاسعة، وهي السياحة، والقطاع اللوجستي، والصناعات التحويلية، والاستزراع السمكي؛ بمعنى أنّها ستكون منفصلة عن برنامج التخصيص، لكن كل شيء وارد ومتوقع، ولن نستبعد أي احتمال.
ومهما كانت القوانين والهيئات الرقابية والإشراقية التي تحتمها الشراكة الجديدة، فإنّ احتفاظ الدولة بالشركات ذات الربح المضمون ينبغي أن يكون بمنأى عن الشراكة والتخصيص، لأنّها رابحة بطبعها، وكل ما تحتاجه إدارات مهنية فقط تحقق الأرباح المضمونة. وقد تعرّفنا مؤخرًا على قصة نجاح شخصيّة عمانية بارزة حولت إحدى الشركات الخاصة من خطر الإفلاس إلى تحقيق الأرباح، وقد كشف عنها المهندس صالح بن محمد الشنفري مؤخرا عندما كان رئيسًا لهذه الشركة، فبعد ثلاثة أيام فقط من نجاح محاولاته إقناع مجلس إدارة الشركة بحلول عاجلة من بينها رفع مرتبات العاملين، تمّ رفع إنتاجية الشركة 100% وتحديدا من 16 ألف طير إلى 32 ألف طير، ومن ثمّ بدأت الشركة في التحول سريعا إلى الربحية.
وهذا نموذج من عدة نماذج عمانية ناجحة، يمكن الرهان عليها لإدارة النجاح المستحق لشركات حكومية خاسرة يمكن أن ترفد ميزانية الدولة بسيولة مالية سنويا مضمونة، وبالتالي، تظل هذه الشركات خطوطا حُمر، لا تقترب منها الشراكة ولا التخصيص، وإنما قضيتها الأساسية تكمن في إدارتها، وهذه مسألة محلولة، فالبحث عن أطر وكوادر عمانية مسألة سهلة، وقد أصبحت لامعة فوق مشهدنا الوطني.
كما تركّزت ردود الفعل كذلك على قضيّة خسارة الطيران العماني الجديدة والمعلنة، وتمّ من خلالها ربطها بأسعار الخطوط الداخلية المرتفعة، وتوجّس الرأي العام من أن يكون وراء التلويح بالخسارة الآن نوايا جديدة لرفع الأسعار مجددا، وقد تداخلت في هذه الجزئية معنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي تلكم الشخصية الاقتصادية البارزة، مذكرا بمرحلة تاريخية سابقة، عندما نجحت شركة الطيران على خطنا الداخلي قبل عقود؛ عازيًا ذلك إلى وجود شركة مساهمة، وقيادة وطنية تديرها لم تتوسع خارجيا على خطوط خسارة.
وهذا التذكير بالنجاح، يضعنا مباشرة أمام حل معضلتنا، وكأنّه – أي التذكير – يطالب بإقامة شركة مساهمة مستقلة عن الطيران العماني ورفع يدها تماما عن الخط الداخلي لكي تتفرغ لخطوطها الخارجية التي تحتم التفرغ والتخصص فيها، لأنّها ذات كلفة تشغيلية عالية جدا، فنجاح التجربة يمكن نسخها الآن وتطويرها بحيث ترفع عن سيكولوجية المجتمع الشعور بصعوبة التواصل الديموغرافي داخل جغرافيّته الوطنية بسبب ارتفاع أسعار التذاكر، وهو شعور يرى أنّ التواصل مع خارج هذه الجغرافيا أسهل من داخلها، وهنا المفارقة الكبرى التي تدعو إلى التحرك العاجل.
وهذا يمكن تحقيقه بسهولة، لكنّه يحتاج لإرادة سياسية بفصل هذا الخط عن شركة الطيران العماني وإقامة شركة مساهمة تكون الحكومة فيها طرفا، تعمل حصريا على الخط الداخلي.. وتتولى إدارتها شخصية عمانية اقتصادية مهنية شريطة أن يكون لديها إحساس بالبعد الاجتماعي الوطني لخطوطنا الداخلية، وهذا سيرفع الثقل عن الطيران العماني التي تقول إداراتها المتعاقبة تتحدث كلها بلغة واحدة عن خسارة الشركة على خطنا الداخلي.
المرحلة الآن مواتية لإقامة هذه الشركة، وعلى يقين أنّه مثل ما نجحت الإدارة الوطنية في تحويل خسارة تلكم الشركة إلى الربحية في فترة زمنية قصيرة جدا، فإنّ هذه الشركة ستحقق الربحية وتكسب مجتمعها في آن واحد، لأنّه ستكون لديها مجموعة خيارات لتحقيق النجاح، من هنا، نرى أنّ هذا تحول ينبغي أن يلازم التحولات الاستراتيجية التي تؤثر على منطقتنا الاجتماعية، فهذه المنطقة لابد أن تشهد تحولات متلازمة لتخفيف من وطأة التحولات نحو الضرائب والرسوم ورفع وسحب الخدمات المجانية عن المجتمع.