رواية "اليد الدافئة"

...
...
...


من تداخل الحكايات إلى أسطرة السرد
(1من4)
د. يوسف حطّيني
أولاً ـ في قضايا الرّواية وإطارها العامّ:
تمتاز رواية "اليد الدافئة" ليحيى يخلف  باختلافها وتمايزها عن روايات الداخل التي كتبها روائيون عاشوا في فلسطين، وعن روايات الخارج التي ذاق كتابُّها ويلات النفي والتشرد، وتقف ضمن روايات "البين بين" التي عاش منتجوها ويلات اللجوء في الشتات، وذاقوا عذابات العائدين إلى الأرض المحتلة بعد أوسلو؛ إذ لاحظ هؤلاء أنّ الإسرائيليين هم "أسياد المكان"، وأن جنودهم ما زالوا يسيطرون على مقاليد الأمور عند المعابر، على الرغم من وجود ضباط فلسطينيين. ولنا أن نقرأ رواية (رأيت رام الله) لمريد البرغوثي ، لنجد أنفسنا أمام سؤال محيّر: أيتحدث البرغوثي عن المنفى أم عن العودة؟
ولا يمكن النظر لرواية "اليد الدافئة"، بمعزل عن مشروع يحيى يخلف نفسه، فهو يختط طريقاً، وينتج مشروعاً روائياً، يغطي تطور القضية الفلسطينية في مراحلها المختلفة، فيسرد في "راكب الريح" هزيمة نابليون في عكا، مطعّماً سرده بحكايات الولادة والسلاطين والحرملك ودسائس القصور، ويصوّر في مشهد سردي بالغ الألم حكاية الحرب التي أنتجت النكبة في "بحيرة وراء الريح"، منتقلاً إلى رصد ويلات اللجوء في ""ماء السماء"، وفي "جنّة ونار" التي تقدّم سرداً جمالياً استثنائياً لصورة الوطن، معرّجاً من ثمّ على سرد وقائع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 في "نشيد الحياة"، كما جرّب أن يختبر نتائج اتفاق أوسلو في "نهر يستحم في البحيرة"، وفي "اليد الدافئة" التي نحن بصدد معالجتها .
لقد جاءت هذه رواية "اليد الدافئة" إذاً؛ لتكون جوهرة جديدة في عقد يحيى يخلف السردي، وتطرح كثيراً من القضايا التي تعرّف القارئ بمعاناة الفلسطينيين بعد أوسلو، وتصور كفاحهم وصعوبة عيشهم بين الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية، وفي رام الله على سبيل التحديد، حيث عاشت معظم شخصيات الرواية حيواتها، وعانت من إعلان بعض المناطق والطرق "مناطق عسكرية مغلقة": ما يعني صعوبة المرور إلى الأراضي الفلسطينية التي تصبح شبه مصادرة، بسبب صعوبة الوصول إليها. فالأرض التي يملكها أحمد/ الشخصية الرئيسية في الرواية، كانت بحكم المصادرة، بسبب وقوعها في منطقة عسكرية مغلقة، وبقيت كذلك أمداً غير قليل، ثمّ صار الوصول إليها ممكناً، ولكنه ليس سهلاً، لأنّ هذه الأرض، مثل كلّ الأرض الفلسطينية مقطّعة بالحواجز التي وضعت في الطريق لامتهان الكرامة، بعيداً عن أعين الرقباء؛ ذلك أنّ نقل الصورة على الجريمة الإسرائيلية ممنوع.: فعندما راح أحمد إلى أرضه، بتشجيع من أبو الخير ، وبمرافقة نيرمين المرأة التي أحبها، وهياتارو الصحفية اليابانية المتضامنة مع الفلسطينين، كانت هياتارو ترغب في التصوير، فقالت لها نيرمين: "توقفي، فإذا رأوك تصورين، سيعتقلونك، ويعتقلوننا معك"، ص164.
كما يهتم السرد برصد المظاهرات التي تشهدها الأراضي المحتلة، فتطالب بالإفراج عن الأسرى أو الإفراج عن جثث الشهداء، أو كشف "مقابر الأرقام" التي يدفن فيها المحتل الشهداء الفلسطينيين، دون أن يخبر ذويهم بأمكنتهم، قبل أن يأتي زمنٌ يكون فيه الشهيد عُرضة لامتهان الكرامة، على نحو ما جرى في مقبرة قريبة من أرض أحمد، كانت سرّية، فكشفتها المياه العادمة:
"المياه العادمة التي تجري في الوادي غيرت مجراها، وفاضت وغمرت مقبرة الأرقام. جرفت العظام، وطرحتها جانباً: جماجم وعظام أقفاص صدور وعظام أعمدة فقرية وعظام أرجل وأيدٍ وأحواض، ملقاة هنا وهناك"، ص185.
ويعرض السرد أيضاً ألوان التعذيب النفسي التي تطال الفلسطينيين، من مثل حجز جثث الشهداء، وكأنّ الحزن الذي يصيب أهلهم باستشهادهم غير كافٍ لفطر قلوبهم؛ وترسيخاً لتلك القضية تقدّم الرواية حكاية أم جليل التي استشهد ابنها بطلقة إسرائيلية في الرأس، في أثناء تظاهرة في بلعين؛ إذ يحجز الاحتلال جثّة ابنها في ثلاجة الموتى، فتتحدث عنه أمّه بطريقة تفطر القلوب:
"لا يقوى على تحمّل البرد؛ كان يتغطّى بلحاف سميك في؛ فلعلّ روحه الآن ترتجف، لعلّ شفتيه زرقاوان من شدة البرد، لعلّ جلده تجمّد، وصار مثل سمكة مجمّدة"، ص123.
وفي مواجهة هؤلاء النازيين الجدد، يكون الإفراج عن جثة الشهيد حلماً بعيد المنال، وهو بحاجة إلى مظاهرات تضامنية، وصليب أحمر، وحين يتمّ (هذا إذا تمّ)؛ فإنه يتضمّن شروطاً مجحفة، على نحو ما جرى مع أم جليل التي تسلّمت جثة ابنها أخيراً، على أن يدفن في منتصف الليل، بعيداً عن الكاميرات والإعلام، وألا يزيد عدد مرافقي الجنازة عن خمسة أشخاص.
وفي فلسطين حيث ينفّذ القتل بدم بارد، يكثر الشهداء، ويصبحون جزءاً من المشهد اليومي، فيمكن أن تجلس على مقهى أو في مطعم، وتمرّ أمامك جنازة شهيد، فتخرج وتسير معها إلى المسجد، وتصلي عليه، وترافق الجنازة إلى المقبرة، ثم تعود إلى المقهى، أو إلى المطعم، أو إلى أيٍّ من شؤون حياتك الأخرى؛ لأنّ الفلسطينيين يحبون الحياة، إذا استطاعوا إليها سبيلا، كما يشير محمود درويش في قصيدة شهيرة. وها هو ذا أحمد يجسّد ما ذهبنا إليه من خلال الأنساق اللفظية التالية:
•    "أخذ أنفاساً من النّارجيلة، وشرب الشاي الثقيل، قبل أن يخبره صبيّ المقهى أن جيش الاحتلال أطلق النار على شاب من مخيم الأمعري على حاجز قلنديا"، ص54.
•    "ألقى لاعبو الورق أوراقهم، وأغلق لاعبو النرد صناديقهم، وقاموا ليشاركوا في الصلاة"، ص55.
•    "عاد إلى نارجيلته، وجدّد نارها، وطلب هذه المرة مشروب اليانسون الساخن، وقال أحد الجالسين لصاحبه: لازم الحياة تستمر"، ص55.
يكسب الشعب الفلسطيني، وفقاً لمسارات الرواية، بفضل نضاله اليومي فوق أرضه بعض المكاسب الحياتية الصغيرة، وترتفع مؤشرات الإصرار على الحياة، فينجح أبو الخير في الزواج من جبينة، ويخطب أحمد نيرمين تمهيداً لزواجهما، وتتسلّم أم جليل جثة ابنها الشهيد، وتتمكن هياتارو والشبيبة من إعادة دفن بعض شهداء مقابر الأرقام بطريقة لائقة، وهذا كله يعني انتصاراً على عالم مظلم، ينظّر لكذبة السّلام، ويترك كل مراراته لشعب أعزل، إلا من إيمانه بقضيته: "يا لهذا السّلام الذي لم يثمر سوى المرارة"، ص56.
وفي أتّون هذه الحرب التي تسمّى سلاماً يعرض السرد حكاية أحمد العامة بشكل تعاقبي تقريباً، من تقاعده المبكّر، إلى ملله وفراغه، إلى لقائه بنيرمين، إلى حكايات أبو الخير معه، وصولاً إلى خطبة أحمد ونيرمين، وزواج أبو الخير من جبينة.
غير أنّ هذه التعاقبية تتعرض لاختراقات فنية مهمة، تقوم على بعض الاسترجاعات، وعلى تداخل الحكايات التي تكسر النّظام التّعاقبي. ويشار هنا إلى أنّ الزمن السردي كان يتوهج حينا ويخبو حيناً آخر: يصعد بنا إلى وادي الباذان ويحبس أنفاسنا في ملاحقة جؤذر  سمعان الناصري وجؤذر أحمد أبو خالد، ولكنه يصبح بطيئاً حين يقدّم شخصيات أو تفصيلات غير مثيرة، أو غير موظفة من مثل السرد الذي يعرض حكايتي أبو مجدي وزوجته، ومن مثل تاريخ عائلة نيرمين، كما يُبطئ السرد حين يتعثّر بالوقفات الوصفية ، على نحو ما نشهد في النصف الأول من الفصل التاسع والعشرين؛ حيث يصف شجرة البلوط، وشجرة القيقب، وشجرة الصنوبر، وشجرة السدر، ثم يمر بسرعة على العوسج  والزعرور والجوز والميسم والخروب والسنط والطلح. ونحن ندرك بالطبع الهدف الأيديولوجي من تأثيث البيئة الطبيعية الفلسطينية بهذه الأشجار، ولككنا نرى أن الروائي لم يوظفها، وجعلها وصفاً غير سردي، مما يعوق سير الحكاية.
وينجح يحيى يخلف، في غير مرة، في استثمار تقنيات تسريع السرد، فيلجأ مثلاً إلى التلخيص، بطريقة احترافية، إذ يؤثث سهرة تلفزيونية، بكلمات دالة، تنتقل، افتراضياً، بالزمن من أول الليل إلى آخره، بينما يقلّب أحمد قنوات التلفزيون، ويراقب العالم من خلال الشاشة الصغيرة:
"العالم مجنون؛ صراعات وقتل وموت، العالم (مشلّط) ومنفلت، أميركا فقدت رشدها، وإسرائيل تتغوّل، والأرض تترنّح، والشمس تغيب، والحياة تمضي، ولو إلى حين"، ص29.
كما يستثمر الروائي الزمن النفسي، ويعرضه ممتزجاً بالمكان، فيؤثر فيه تأثيراً بالغاً، ويجعل العشق الذي بدأ يغزو قلب أحمد بعد لقائه بنيرمين عدة مرات متّكأً لفردوس مكاني واسع، فيقول مثلاً: "أشعر أن فضاء البيت اتسع، وسقف السكينة صار أعلى؛ ففي هذه الليلة تظللني غيمة ساقتها لفضائي غزالة، غيمة تطرد هجيرَ حزنٍ مقيمٍ ووجعٍ لا يرحل"، ص77.
على أنّ هذا الزمن النفسي؛ إذ يختلط بفضائه الخاص، لا يتقيّد بخصوصية مكانية مغلقة هي بيت أحمد، بل يتسّع إلى بيت أحمد الكبير (فلسطين)، ويحلّق خارجه؛ فأحداث الرواية تجري في رام الله وحولها (شارع ركب، حيّ الطيرة، ميدان المنارة، وادي الباذان)، وتمتد في الذاكرة إلى سورية ولبنان والسودان، وصولاً إلى أوروبا، غير أنّ المكان الفلسطيني يحفِزُ الروائيَّ العاشقَ على استخدام لغة ترقى على اللغة الإخبارية التي تشيع في روايته، فتخضّرُ اللغةُ آنئذٍ اخضرارَ أرض فلسطين؛ ففي الطريق إلى وادي الباذان "أطلت الجبال والأحراش عندما اقتربوا من الوادي. منظر الطبيعة ساحر، وشلالات الماء تسّاقط من علٍ، ولا تتوقف"، ص165، وعندما يصل إلى هناك ينسج الجمال حكاية جديدة: "يا لهذا السهل المفروش بالخضرة وكأنه بساط نسجه الإنس والجان"، ص168. وفي سياق آخر يمتزج اخضرار الأرض باخضرار القلوب؛ إذ يصبح عشق أحمد ونيرمين جزءاً من لوحة العشق الكاملة:
•    "يا لروعة الخضرة! يا لروعة الأرض التي ترتدي هذا الكساء الاخضر!
ومرة أخرى مدت له نيرمين اليد الدافئة"، ص170.
•    "اقتربت نيرمين، وأمسكت يده، كانت مسحورة بالمكان حتى الذهول، أمسكت يده، وقالت: لا تتركني، أحتاجك"، ص169.
وفي رام الله تتنوع الأمكنة بين حديثة وتقليدية، وبين مفتوحة ومغلقة؛ فإذا أردت الحداثة وجدتها في مقهى بيتسو، حيث يرتاده "رجال ونساء في غاية الأناقة، وصبايا بإطلالة بهيجة بالجينز والشعر الذي ينسدل على الأكتاف، وشباب بالجينز، وشعر يحاكي قصات نجوم السّينما"، ص23. وهو غربي الطابع، ويختلف عن المقهى العربي كثيراً، فـ "الكراسي والطاولات والزبائن والأسعار هنا تختلف، المقهى العربي للذكور فقط، ويقع بجانب سوق الخصار ومواقف الحافلات وسيارات الأجرة، أما مقهى بيتسو، فيقع في حي الماصيون الراقي، ويتمتع بديكور جميل وأثاث فاخر، وقائمة مشروبات وعصائر وطعام أنيقة، ويجاور فندق الموفنيك، وزبائنه من الشباب والصبايا، ومن رواده الدائمين زبائن أجانب من العاملين في المنظمات الدولية، أو قنصليات الدول المانحة"، ص23، ومن الطبيعي ألا يقدّم هذا المقهى القهوة التركية التي يحبّها أحمد، فـ "هنا توجد أنواع أخرى: أكسبرسو، فلتر أميركي، نسكافيه، كابتشينو"، ص25، بينما في المقاهي والمطاعم التقليدية الموجودة في رام الله فيجد القهوة التي يريد، وأطايب الطعام الشرقي، وقد يجد برنامجاً طربياً يستمع فيه إلى أغنيتَيْ: "كل ده كان ليه" و"حبيبي يسعد أوقاته".
وللحق فإنّ تنوّع المكان بين المفتوح والمغلق جاء لصالح المكان المفتوح، ولصالح شخصية أحمد التي تسعى للخروج من قوقعتها/ البيت؛ لذلك حضرت الحقول والبساتين والشوارع والمقاهي، حتى أجزاء البيوت التي تنفتح على عوالم أخرى، فشرفة بيت أحمد مثلاً مفتوحة على حكاية جارته "وفي العمارة المقابلة، البيوت مطفأة، ما عدا تلك الشقة التي تسكنها المرأة التي تمضي الليل بالعمل وراء الماكينة"، ص33، والجلسة في بيت نيرمين تحلو في الفضاء المفتوح "انتقلوا جميعاً إلى الفضاء المفتوح، إلى الترّاس الذي أشرفت الصبية على فرشه وترتيبه"، ص92، حتى إن الفضاء المغلق الذي ظهر في آخر الرواية (العلبة) انفتح على حياة جديدة للعاشقين ؛ فياسمين ابنة أحمد أعطته علبة مغلّفة في أثناء حفل عرس أبو الخير وجبينة؛ من أجل أن يخطب؛ فيكون فتح العلبة انفتاحاً على حياة جديدة بينة وبين معشوقته نيرمين: "تسنّى له أن يمد يده، ويُخرج العلبة التي دسّتها ياسمين في جيبه. فتحها وفوجئ أن بداخلها خاتمي خطوبة"، ص259.
ويمتدّ تأثيث المكان إلى خارج الديار العربية، إذ يصف أحمد/ الروائي نادي علي بابا الذي أقامته صوفي في ألمانيا، قائلاً عن صوفي: "نفّذت بذائقتها ما صممته من ديكور ذي طابع شرقي، ومقاعد (البوف) المصرية، وألوان الجدران بلون رمال الصحراء، وإضاءة برقّة شروق الشمس ولا زورد الغروب"، ص82، ولا يقتصر تأثيثه البصري على الأشياء، بل إنه يؤثثه أيضاً برقص صوفي، وبحكايات علي بابا التي سنتطرق إليها لاحقاً: "رقصتْ على إيقاعات أذهلت جمهورها الغربي، رقصت برشاقة وخفة، رقصت كموجة تقبل بعنف وتتراجع بخفة، تهجم كنَمِرة، وتتراجع كغزالة، تدور كزوبعة، وتعتدل كنسمة"، ص83.

 

تعليق عبر الفيس بوك