د. عبدالحميد إسماعيل الأنصاري
كاتب قطري
وضحت في المقالات الثلاثة، أنّه لاجدال ولا تشكيك في السنة النبوية باعتبارها المصدر الرئيسي الثاني للدين والتشريع الإسلامي؛ ولأنّ السنة النبوية لم تدون بشكل منهجي إلا بعد قرن ونصف من وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وتناقلتها الأجيال عبر السماع والحفظ، وقد قدّر بعضهم أنّ المرويات الحديثية وصلت المليون، وهذا أتاح المجال واسعاً لتسلل مرويات مكذوبة، مما تتطلب من علماء الحديث الأوائل جهوداً جبارة في سبيل جمع هذه المرويات، من شتى الأقطار، وفرز الصحيح من المكذوب منها.
وبرز في هذا الميدان أئمة أعلام، استطاعوا انتقاء الأحاديث الصحيحة وفرزها من كم هائل من المرويات المنتشرة في الأمصار الإسلامية، ودونوها فيما سمي بكتب الصحاح الستة: البخاري ومسلم والنسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجة، وكان اهتمامهم بصحة الإسناد بالدرجة الأولى بحسب الأدوات المعرفية المتاحة في عصرهم وذلك فيما يعرف بعلم الرجال.
وإذا كان العلماء العظام السابقون اجتهدوا في جمع المرويات الحديثية وتدوينها وفرزها، وهذا جهد عظيم نقدره كثيراً، إلا ّأنه على علمائنا المعاصرين، أن يكون لهم إسهامهم الحر والخلاق في هذا الميدان، وإذا كان السابقون قد اجتهدوا واهتموا بنقد الرجال وصحة الإسناد أولا، فإنّ الأولوية اليوم، لتفعيل صحة المتن، وسلامته من الشذوذ والعلل؛ إذ لا تغني صحة الإسناد عن صحة المتن، وهو ما قرره السابقون أنفسهم.
لقد أثبت النقد العلمي الحديث أنّه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، فكم من حديث صح سنده، ولم يصح متنه رغم وروده في الصحيحين أو أحدهما، مثل: الحديث (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر الخلق) هذا الحديث يذكر أنّ خلق السموات والأرض استغرق أسبوعاً كاملاً، في مخالفة صارخة لقوله تعالى (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لُغُوب) فضلا عن أنّه يخالف العقل والتاريخ، لأنّ تسمية أيام الأسبوع بأسمائها المعروفة، وضع بشري لم يعرف إلا بعد خلق آدم وَذُرِّيَّتِهِ في العصور التاريخية المتأخرة !
وأمّا الحديث الذي يقول (لولا بنو إسرائيل لم يخنز (أي لم لم ينتن ويتفسخ اللحم) عاقبهم المولى بسبب عصيانهم، فإنّه مناقض للعلم، لأنّ سبب إنتان اللحم، وجود الجراثيم! والقرآن يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فما ذنب الأمم الأخرى؟!
ومثل: الحديث الذي يحذر من الاشتغال بالزراعة، ويذم آلة الحرث (أنّها ما دخلت بيت قوم، إلا أدخلوا على أنفسهم ذلاً إلى يوم القيامة) لا يعقل، رغم صحة سنده، لأنه: معوق للإنتاج الزراعي، المورد الأساسي لمعظم الدول الإسلامية، كما لا يتصور صدوره ممن يعيش في المدينة المنورة التي تشكل الزراعة المهنة الرئيسية لأهلها! ومناقض لحديث (ما من مسلم يغرس غرساً.. فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) وغيرها من مرويات، صحت أسانيدها، ولم تسلم متونها.
ورغم أنّ شراح الصحاح حاولوا تلمس تأويلات توفيقية لها، لكن أكثرها متكلفة، وغير مقنعة.
عقلانية السنة، تعني رفض كافة تلك المرويات المخالفة للقرآن والعقل والعلم والإنتاج، من دون أن نقدح في كتب الصحاح، أو نبخس جهود أصحابها التي ابتغوا بها وجه الله تعالى، فهم مأجورون، بإذنه تعالى، أصابوا أو أخطأوا.
ختاماً: من الضروري هنا، تأكيد أننا لسنا مع التوجه الذي يقول (حسبنا القرآن) أو (القرآن وكفى) فذلك خطل في المعرفة، وتوجه بل تبصر، فالسنة شارحة ومفصلة ومنشئة للأحكام، بنص القرآن الكريم نفسه (وما أتاكم الرسول فَخُذُوه وما نَهَاكُم عنه فَانتَهُوا).