الاعتراف والصراع والسيطرة في الفلسفة الاجتماعية المعاصرة لـ"إمانويل رونو"

 

محمد الشيخ

تعد الفلسفة الاجتماعية من أكثر المباحث الفلسفية تهميشا في مجتمعات العالم العربي، مع أن هذه المجتمعات تعاني من أشد المشاكل الاجتماعية خطورة: الفقر والتهميش والانحراف والتطرف، بله الحرب الأهلية. ولهذا السبب، فإن أية مساهمة في هذا المبحث مرحب بها لرفد الفكر العربي المعاصر بنفحات فكرية ومنهجية جديدة. وكتابنا لهذا الشهر يندرج في هذا السياق. فهو يتناول بالتحليل والنقد إحدى أهم نظريات الفلسفة الاجتماعية في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن: "نظرية الاعتراف" التي وُجدت إرهاصاتها الأولى في كتابات هيجل (1770-1831) الأولى، وظلت في طي المظنون به على غير أهله، إلى أن نبه عليها الشارح الأعظم لهيجل وتلميذ تصانيفه الفيلسوف الروسي الفرنسي ألكسندر كوجيف (1902-1968)، وأفشى القول فيها المفكر الإستراتيجي الياباني الأمريكي فوكوياما (1952-    )، بعد أن استلهمها الفيلسوف الاجتماعي وريث مدرسة فرانكفورت النقدية الشهيرة أكسل هونيث (1949-    ). وها هو اليوم الفيلسوف والباحث الاجتماعي الفرنسي إمانويل رونو (1967-    ) يقومها تقويما.

ومقتضى هذه النظرية أن الإنسان، أولا وقبل كل شيء، رغبة في الاعتراف؛ أي أنه كائن نزَّاع بطبعه إلى أن يُعترف له بهويته وبمؤهلاته داخل مجتمعه، وما دام لم يعترف له بذلك، وهو حال أغلب المجتمعات، فإنه ينازع في كفاح دائم لانتزاع هذا الاعتراف. على أن من الاعتراف ما هو حق الاعتراف ـ الاعتراف الحقيقي بالفرد داخل مجتمعه ـ ومنه ما هو شبيه الاعتراف ـ الاعتراف المزيف بالفرد؛ شأن الاعتراف لإنسان يتم استغلاله بأنه رجل طيب، أو الاعتراف لامرأة مقهورة بأنها سيدة بيت رائعة.

وقد صارت تدخل العناية بموضوع كهذا ـ الاعتراف ـ ضمن مبحث "الفلسفة الاجتماعية" التي شأنها أن تعنى بالقضايا الاجتماعية الكبرى؛ شأن "الاعتراف" وضد ضديه "إنكار الاعتراف"، و"النزاع" أو "الصراع" وضده "الوئام الاجتماعي"، و"الأنانية" و"الفرداينة" وعكسها "التضامن الاجتماعي"، و"الحرية الاجتماعية" وما يخالفها من "استعباد اجتماعي" و"سيطرة" ... وقد تفرعت عن هذا المبحث الأوحد ـ الفلسفة الاجتماعية ـ مباحث أخرى أشهرها "الأنطلوجيا الاجتماعية" وشأنها النظر في "الوجود المعي"؛ أي في وجود الفرد مع الآخرين داخل المجتمع، و"الإبستمولوجيا الاجتماعية"؛ وأمرها النظر في شروط النظر في الشأن الاجتماعي وعوائقه والتمييز بين "المجتمع" و"الجماعة"، والتمييز في تحليل الاجتماعي بين "الوصفي" و"المعياري"، على أنه تمييز بين الأمر "الواقع" "الحاصل" والشأن "المرجو" أو "المأمول".

وهذا الكتاب (2017) مساهمة جادة في تدارس مواضيع أساسية ثلاثة من مواضع الفلسفة الاجتماعية: الاعتراف والصراع والسيطرة، وذلك من منظور نظرية الاعتراف التي حرر الكلام فيها فيلسوف مدرسة فرانكفورت وأحد أهم أعضاء الجيل الثالث منها أكسل هونيث. على أن جديد هذا الكتاب أنه يوحي، في تقليد في تاريخ الفلسفة غربي غريب، بضرورة التمييز بين "هونيث الأول" و"هونيث الثاني"، على غرار ما ميزوا بين هيجل الشاب (هيجل الأول) وهيجل الناضج، وبين ماركس الشاب وماركس الناضج، وبين فيتجنشتاين الأول وفيتجنشتاين الثاني، وهايدجر ما قبل المنعطف وهايدجر ما بعد المنعطف ... مقيمين هذا التمييز إما على أساس التفرقة بين "كتابات الشباب" وكتابات النضج"، كما في حالتي هيجل وماركس، أو بين "كتابات ما قبل المنعطف" الفكري الذي قام به المفكر وكتابات ما بعده، على نحو ما هو حاصل في حالتي فيتجنشتاين وهايدجر. وقد نزع مؤلف الكتاب نحو هذا المنزع الأخير. وتلك أطروحته الأساسية. أما مسائل الفلسفة الاجتماعية الثلاث التي تناولها ـ الاعتراف والصراع والسيطرة ـ فهي مجرد حالات تطبيقية لإثبات دعواه.

ينطلق مدخل الكتاب بتذكير. فهو يذكرنا بأن أكسل هونيث كتب كتابه المؤسس "الصراع من أجل الاعتراف" عام 1992، وقد آن الأوان اليوم لتقويم تجديداته في مجال الفلسفتين الاجتماعية والسياسية، وأثرها على النظرية النقدية المعاصرة. ويرى المؤلف أن ثمة على الحقيقة "نموذجين" فكريين لنظرية الاعتراف: النموذج الأول يقوم على أولوية "التجارب السلبية"؛ أي تلك الخبرات الاجتماعية الشاهدة على الظلم الذي يحيق ببعض الأفراد أو الجماعات، والآثار التي تتركها في أنفسهم وعلى معنوياتهم من حيث شعورهم بالضيم. لكن، يلاحظ المؤلف، أن هونيث وفي طور ثان قام بتطوير نظريته في الاعتراف ـ التي تشكل محور نظريته الاجتماعية ـ في اتجاهين مختلفين. إذ لم يعمل فقط على إعادة صياغة برنامج البحث الأصلي الذي حددته نظريته في شكلها الأول، وإنما تخلى عنه نحو برنامج بحث آخر، واضعا بذلك للنظرية النقدية المعاصرة بديلا. أكثر من هذا، غير هونيث تغييرا جذريا رأيه في منزلة نظرية الاعتراف؛ بحيث انتقل من تصور لهذه النظرية من حيث هي نظرية شاملة إلى تصور لها من حيث هي نظرية مخصوصة تحتاج إلى تتميم بأنواع أخرى من التنظير. وبهذا انتقل من أنموذج للفلسفة الاجتماعية محوره نظرية الاعتراف إلى أنموذج آخر يستوعب في طياته نظرية الاعتراف نفسها، فلا تعود هي المحور وإنما المحور نظرية في الحرية الاجتماعية. كيف حدث هذا؟

في البدء، تميز كتاب "الصراع من أجل الاعتراف"، بالقياس إلى عمل الفيلسوف الألماني هابرماس (1929-   )، عراب هونيث، على ثلاثة أصعدة: 1- طريقة معالجته لمشكلة تغيير المجتمع. إذ بينما كان هابرماس يتنبى وجهة نظر مزدوجة: أ ـ نظرية الحداثة بوصفها عقلنة و- ب ـ تصور الديمقراطية في صورة نظرية في الحق وفي المجال العمومي، اقترح هونيت نظرية شمولية في الصراعات الاجتماعية توحد بين الحقلين (نظرية الاعتراف). 2. بينما كان هابرماس يسعى إلى تأسيس النقد الاجتماعي في إطار نظرية عقلانية تواصلية، كان هونيت يحاول ذلك في سياق تصور برجماتي للتجربة الاجتماعية مستملى من جون ديوي (1859-1952) ومن جورج هربرت ميد (1863-1931). 3- وأخيرا، بينما كان هابرماس يصوغ نموذجا نقديا محايثا مستندا إلى الطريقة التي بها أسست الحداثة مبادئ معيارية ولم يتم الوفاء بكل وعودها، حسب موضوعة "الحداثة باعتبارها مشروعا غير مكتمل" كما اشتهرت عند هابرماس، كان هونيث يقترح نموذج نقد محايث للتجربة الاجتماعية مستلهم من نزعة أدرونو (1903-1963) المنهجية السلبية؛ وذلك بجعله من التجارب الاجتماعية السلبية رافعة لنقد المبادئ المعيارية المؤسسة، من حيث أنه انطلق ـ تماما مثل أدورنو ـ من خبرات معيشة لدى أفراد عاديين، باعتبارها خبرات مشوشة وسلبية وغير عادلة (التجارب السلبية) ومن الآثار النفسية التي تتركها على من عاشوها (الجراحات المعنوية)؛ وبالتالي لئن دعا مشروع الحداثة إلى الاعتراف للفرد بميولاته ومؤهلاته، فإن ما حدث بالفعل وفي الواقع هو إنكار هذا الاعتراف كما تشهد على ذلك الكثير من التجارب السلبية. وكثيرا ما ذكر هونيث أن هذه العودة إلى أدورنو، وإلى "فينمومينولوجيا التجارب اليومية (السلبية)"، هي ما ميزه عن هابرماس، كما عن التوجهات المهيمنة في الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية. ومن تم، ركز النموذج الأول ـ سياسيا ـ على أمرين: 1- فينومينولوجيا التجارب السلبية. 2- المقاربة الجدلية للمسائل المعيارية التي منطقها: 1- ثمة إنكار الاعتراف بهوية ومؤهلات الأشخاص في الواقع، ولهذا وجب إنكار الإنكار (نفي النفي) حتى يتحقق رفع الظلم الواقع على فئات من الناس؛ وبالتالي تحقيق المساواة. 2- وهناك تجارب للسيطرة على الناس، والمطلوب نفي السيطرة؛ أي تحقيق الانعتاق الذي يعني إلغاء القمع.

هذه التجديدات الثلاثة هي ما كان شَكَّلَ الأنموذج الأول لنظرية الاعتراف. وبناء عليها تم تحديد برنامج بحيث تصب في هذا الاتجاه وتمتح من "السلبية المنهجية" ومن "النقد المحايث". لكن المؤلف يرى أن هونيث سرعان ما تخلى بالتدريج عن هذا الأنموذج في غضون سنوات 2000: هجر الرجل ميد (الصراع) لصالح دوركهايم (التضامن)، وتخلى عن أدورنو (التجارب السلبية) لصالح هابرماس (التوافق). وهكذا، لم يعد يتم تحليل العالم الاجتماعي بدءا من الصراعات بين الجماعات المجتمعية، وإنما صار يتم تأويل علاقات الاعتراف باعتبارها مبادئ "إدماج" اجتماعي، وتم الكف عن إحالة معيارية الاعتراف إلى الانتظارت الضمنية المتواجدة في التجربة الاجتماعية، وبناء انتظارات الاعتراف هذه على مبادئ تهيكل المجتمعات الحديثة. وقد رافقت هجرة ميد لصالح اللحاق بدوركهايم الأوبة إلى هابرماس. إذ بقدر ما كانت مركزية الصراع والسيطرة تمحى، أمسى بالإمكان التفكير في "الاعتراف" باستعمال تعابير المفترضات المعيارية للحياة الاجتماعية على طريقة هابرماس في النظر في الشروط الشارطة للاندماج الاجتماعي. ومن هنا تم التوقف عن اعتبار التجارب السلبية نقضا مشوشا للمبادئ المعيارية المؤسسة. وبهذا تم التخلي عن قطبي نظرية الاعتراف: اللجوء منهجيا إلى التجارب السلبية، والتخلي عن "النقد المحايث" للمجتمع مقابل اللجوء إلى "النقد الداخلي"؛ أي من داخل المعايير والمبادئ وليس من داخل التجارب والخيبات. كما تم تقليص مديات نظرية الاعتراف، بل وجعلها لاحقة وضميمة لنظرية الحرية الاجتماعية بعدما كانت هي العمدة.

والسؤال الذي يعترض به المؤلف على هذا المنعطف الذي أحدثه هونيث في "نظرية الاعتراف" هو: ألم يكن من المبكر لأوانه هجران برنامج البحث الأصلي كما تحدد في كتاب "الصراع من أجل الاعتراف"؟ وهل تم فعلا فحص كل خصوبته؟ وأنَّى لهونيث أن يقبل بأن كل النقود التي وجهت إليه كانت وجيهة، وأنه كان ينبغي إعادة توجيه برنامج البحث الأصلي للوصول إلى جواب عنها؟ أَوَ ليس يمكن توجيه النقد عينه الذي كان يوجهه من قبل هونيث إلى هابرماس حول التفاوت بين تصوره للديمقراطية وما يحدث بالفعل في التجارب السلبية، لا سيما في كتابه اللاحق "الحق في الحرية" (2011)؟

ويمكن تلخيص أطروحة المؤلف الأساسية في هذا الكتاب في العبارة الجامعة: يستحق برنامج البحث الأصلي أن يتم الدفاع عنه سواء في ما تعلق بأمر إمكان انطباقه على حالات مجتمعية أم بأمر ما يلزم عنه سياسيا من مواقف. هذا وبغاية الدفاع عن هذه الأطروحة انقسم الكتاب إلى قسمين: القسم الأول سماه المؤلف "نماذج"، ويتعلق بالنماذج النظرية المقترحة للتفكير في الظاهر الاجتماعية. والقسم الثاني سماه "ميادين"؛ ويتعلق بمجالات البحث الميدانية الخاصة بهذه الظواهر. وهكذا، فإن القسم الأول دار على نماذج للنظر في أمر الاعتراف والصراع والسيطرة: النموذج الهيجلي القائم على مفاهيم "الاعتراف" و"الصراع حتى الموت" و"الشغل والسيطرة" (الفصل الأول)، والنموذج الماركسي الناهض على مفاهيم الاعتراف والاغتراب والإهانة والمؤسسات والأدوار الاجتماعية (الفصل الثاني)، ونموذج ديوي وميد الساعي إلى إعادة صياغة النموذج الهيجلي من خلال مباحث "الذهن والذات والمجتمع" (ميد) والأنتربولوجيا وعلم النفس والأخلاق والسياسة (ديوي) (الفصل الثالث)، ونموذج بوريدو (1930-2002) ودو لابويسي (1530-1563) الذي يكمل النموذج الهيجلي ويبرز العلاقات بين الاعتراف والسيطرة (الفصل الرابع).

على أنه ما كان من شأن الفلسفة الاجتماعية أن تكتفي هنا بتقديم نماذج نظرية مجردة بما يتناقض مع نزوعها إلى أن تكون فينومينولوجيا تجارب اجتماعية سلبية. وهنا يعود المؤلف إلى أدورنو (ضد ماكس فيبر) ويحاول المزج بين مقاربات ميكرولوجية وسوسيولوجية وتحليلية نفسية للتجربة. وهو ما سيفعله مع تحليلات ظاهرة السيطرة (المزج بين تحاليل هونيث وهيجل ولابويسي وبورديو)، ومع خطاب الاحترام (المزج بين تحاليل هونيث وسوسيولوجيا الإقصاء وسبيفاك وليوتار)، ومع تحليلات الشغل (المزج بين هونيث وسيكولوجية الشغل ...). ويدعو المؤلف على العموم إلى ضرب من "نظرية الاعتراف" يتوقف فيها الفلاسفة الاجتماعيون عن طرح أسئلة معيارية بمعزل عن دراسة التجارب الاجتماعية ... ويسعون إلى تطوير نماذجهم النظرية على ضوء المشاكل الخاصة التي يمتحون منها ويجهدون لتوضيحها، وينهلون ما أمكنهم ذلك من العلوم الاجتماعية، ويمارسون يقظتهم النقدية اتجاه الخطابات الفلسفية المسيطرة، كما يحتاطون من النظريات الاجتماعية والنفسية التي تتصارع في حقلها بغاية فرض سلطانها.

ولهذا الأمر، جاء القسم الثاني تطبيقا للحدس الأساس الموجود في كتاب هونيث "الصراع من أجل الاعتراف". وقد تضمن نتائج دراسات ميدانية في أغلبها حول المواضيع الثلاثة: الاعتراف والصراع والسيطرة. وكان الهدف منه بيان أن النموذج الأول لنظرية الاعتراف يسمح بالتفكير تفكيرا مناسبا في الأشكال العادية لتجربة الظلم والسيطرة التي تبطل شبكات التحليل التي عادة ما تطبق عليها، وأن هذه التجارب الاجتماعية السلبية ـ تجربة نكران الاعتراف أو إنكار العرفان، وتجربة الصراع الاجتماعي المريرة، وتجربة السيطرة المقيتة ـ سواء تعلق الأمر بميدان الشغل (مضمون الفصل الثامن) أو بأوضاع الاقتصاد الخاصة بالأحياء المهمشة (مضمون الفصل السابع)، أو بأوضاع التهميش التي يتبناها أصحابها و"يختارون" العيش على هامش المجتمع السائد، كما هو حال مجموعة من الشباب المتمردين (punks Squatters) (الفصل السادس). والهدف أيضا بيان أن هذا النموذج الأصلي يسمح على نحو أفضل من إطارات أخرى بتوضيح المضمون المعياري للديناميات الاحتجاجية التي تجد أصلها في التجارب الاجتماعية السلبية، وتسمح بالتعبير عن النزاعات الأكثر تنوعا (من تحول معنى مطلب الاحترام في الأحياء المهمشة، إلى تسييس التفاعل العادي لدى المجموعات المنبوذة، حتى أشكال التمردات والمطالبات في ميدان الشغل).

لكن ينتهي المؤلف من اجتهاداته الميدانية والنظرية هذه إلى أن النموذج الأصلي لنظرية الاعتراف الذي تبناه يحتاج إلى تعديل وتكملة يمكنانه من استيعاب تنوع صراعات الاعتراف وتعقد العلاقات بين الاعتراف والسيطرة. ويرى أن المساهمة في هذا الإثراء كانت هي مطمح الكتاب. وقد سلك لتحقيق هذه البغية مسلكين: أولا؛ في القسم الأول من الكتاب واجه بين مختلف النماذج النظرية وعادل ووازى. وفي القسم الثاني مزج بين مختلف النماذج بغاية استيعاب خصوصيات التعالقات بين الاعتراف والصراع والسيطرة التي يمكن أن نعثر عليها في مختلف الميادين.

ويختم المؤلف كتابه بالتساؤل: إلى أين تسير النظرية النقدية؟ ويذكرننا بأن عمر هذه النظرية يقارب القرن، وأن نظرية الاعتراف إنما أنتجت في حضنها، ومنحتها نفسا جديدا. فهي قول مستأنف في النظرية النقدية. لكن هذا لا يمنعه من التساؤل عما إذا كانت النظرية النقدية برمتها تسير نحو المجهول. والذي عنده أن ميزة هذه النظرية أنها لا تلقي، فحسب، نظرة جديدة على جهود الرعيل الأول (هوركهايمر، ماركوزه، أدورنو) وعلى الجيل الذي تلاه (هابرماس)، وإنما تسلط الضوء على ما قبل تاريخ النظرية النقدية (هيجل وماركس) وعلى ما يدور مدارها من نظريات (فيبر، فرويد). ولم تبق النظرية النقدية مرتهنة إلى التقليد الألماني بل انفتحت ـ لا سيما مع هابرماس ـ على التقليد الأنجلوسكسوني (ديوي، بيرس، ميد). وهونيث وريث هذا الانفتاح الذي أمسى يسمى باسم "المنعطف البرجماتي".

وأخيرا، يتبين أن الاعتراض الأساسي على هونيث إنما هو ينصب على المنزلة الضخمة التي يحتلها هيجل في نظريته. يقر المؤلف بأنه هو نفسه انطلق من النموذج الهيجلي للاعتراف، قبل فحص مساهمات كل من ماركس وديوي في التنظير للاعتراف، لكن، وعلى خلاف هونيث، لم يتم اختزال ماركس وديوي لاستعمالهما في تحيين هيجل، وإنما وجد المؤلف في ماركس وديوي وسائل تطوير ما يسمح في هيجل بأن نفكر فيه بدءا من الاعتراف؛ أي في موضوع ماركس الأثير والمركزي: الصراع والسيطرة. فلم يتم الانخراط في مشروع "الهيجلية الجديدة" ـ وهذه هي التهمة الأساس التي يؤاخذ عليها المؤلف هونيث ـ وإنما الاندراج في مشروع نظرية نقدية تعترف بإرثها الماركسي وفي نفس الوقت تتحاور مع مختلف نظريات الصراع والسيطرة؛ بما في ذلك نظرية بورديو. ولهذا رسم المؤلف معالم نظرية نقدية للمجتمع مستلهمة من ماركس، بالبدل عن هيجل، بحيث لا يكون فيها هيجل أكثر مشروعية من أدورنو أو ديوي، ولكنها تعمل على تحيين حدوسات هؤلاء، وفي نفس الوقت تستند إلى النظريات السوسيولوجية المستجدة في الصراع والسيطرة التي أقيمت عنها بمعزل، كما تنهض على بحوث ميدانية فعلية ...

لقد حاول المؤلف تجاوز ما اعتبره المخاطر المحدقة بالنظرية النقدية. وهي:

  1. استبدال نظرية الحداثة بنظرية الرأسمالية المعاصرة؛ أي الليبرالية الجديدة.
  2. نسيان المركزية الاجتماعية والسياسية للسيطرة والصراع؛ وذلك بتعلة إحداث تفكير جديد ينتصر إلى التضامن الاجتماعي والحرية السياسية ويغطي على التصارع المجتمعي والسيطرة الاجتماعية.
  3. تأسيس النظرية النقدية في مبحث مستقل ومنعزل يعبر عن ذاته في مجلات متخصصة، مع أداء ثمن التخلي عن الجهد الرامي إلى التفرقة بين المباحث والتخندق في مبحث بعينه، وذلك بغية عدم التدخل الفعال في الصراعات الخاصة بمعرفة العالم الاجتماعي، والتمويه على انغراس النظرية والنقد في تجربة الظلم والسيطرة الاجتماعية، والتخلي عن اتخاذ موقف سياسي حاسم ونسقي من أجل الكفاح ضد ما يحصل في العالم الاجتماعي من ظلم وسيطرة.  ومجمل هذه الآفات هو ما سعى المؤلف إلى تجاوزه في كتابه هذا.

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك