"والذين في أموالهم حق معلوم"

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

alikafetan@gmail.com

بالأمس القريب، عندما كنت أعود للبيت، وقعت في زحمة غير مُعتادة لذلك الحي الذي لطالما كان نظيفا وهادئاَ، فحسبت أن هناك حادثًا لا سمح الله، لكنني لاحظت أن جلَّ المرتادين من النساء والأطفال والشيوخ والوافدين من جنسيات عربية وأعجمية، والجميل هو تلك الابتسامة التي ترتسم على شفاههم وهم يغادرون مُسرعين؛ فالوقت كان قبل الإفطار بدقائق، ومن كثر الزحمة توقَّعت أن أفطر وسط هذا الحشد، سألت رجلا باكستانيا عن الأمر، فقال لي كلمة واحدة: "زكاة"، وأشار بأصبعه إلى فيلا تحفُّها الأشجار، يصطف أمامها الناس في طوابير منتظمة، وذكر لي أحد المارة لاحقا أنَّ الأب والأم والأبناء والبنات جميعهم مُجندون في هذا المساء لمنح زكاة مالهم بأيديهم للسائل والمحروم.. فما أعظمه من مشهد.

كان مشهدا إنسانيا رائعا، أعادنا إلى عهود خلت كان فيها تجار ظفار القدامى -رحمهم الله- ينهجون هذا النهج فتجد المحتاجين يعلمون الأيام التي يتصدق أو يزكي فيها كل تاجر، وفي الغالب تكون في العشر الاواخر من رمضان، فيتقاطرون إلى بيوتهم، وتجد الفرحة تعم الرجل وجميع أسرته وهم يمنحون المحتاجين زكاة مالهم، فتُفرش لهم الأماكن ويتفطرون ويأخذون ما كتب الله لهم، ويذهبون وهم يدعون لصاحب المال بالخير واليسر في الدنيا والآخرة، ومهما كانت المبالغ صغيرة؛ فالكثيرون محتاجون ولا يعلمهم الكثير من الناس، وغير ذلك تجد قوائم أسر الفقراء المتعففين واليتامى التي ترسل لهم الزكاة والصدقات إلى بيوتهم، وهناك من أجرى عليهم مؤنة شهرية طوال حياته هذه هي إحدى الصور المشرقة التي اطلعت عليها هذه الأيام، وأخذتني بعيدا إلى الماضي، فرحم الله تجار ظفار الذين ساروا على الطريق السليم، واتقوا الله في أموالهم، ورسموا صورة مشرقة للإسلام والمسلمين، وأعان الله الباقين للسير على نهجهم القويم، فكانت صورة الأمس مشرقة؛ فمشهد الأطفال الصغار وهم يركضون خلف أمهاتهم فرحين وكل واحد منهم يقبض الخمسة ريالات أو العشرة، ويضربون موعدا مع السوق لشراء ملابس واحتياجات العيد كان عظيما.

قد يَرَى البعضُ ذلك الفعل من زاوية مظلمة، فيقول هذا امتهان لحاجة الناس، وإظهار لحاجة الفقر والعوز، وكان بمقدور هذا التاجر أو ذاك التبرُّع للجمعيات الخيرية ومنح المال بصمت إلى المستحقين، لكنهم لم يروا ما شاهدته بالأمس من مشهد روحاني إنساني الكل كان مبتسمًا وفرحًا، والموقف أمام ذلك المنزل كان إنسانيًّا بامتياز كذلك، فمع الزكاة يوزع الإفطار ولا توجد زحمة ولا جدال ولا ارتفاع للأصوات؛ فالكل يدخل من المداخل المعدة ويأخذ حق الله كما يقولون ويغادر، وهناك أماكن كانت مخصصة للنساء. إنَّ العددَ التقريبيَّ الذي شاهدته يقدر بالمئات علما بأنَّ الكثير قد توافدوا من بعد صلاة العصر وحتى تلك اللحظة؛ فلكم أن تقدروا العدد والمال الذي أُنفق لمرضاة لله، ولكن الأجر يتكفل به رب العباد فهنيئا لهؤلاء، وبارك الله لهم في أمولهم وذرياتهم وصحتهم، وجزاهم الله خيرًا عن الناس.

عندما يكون الحديث عن أصحاب الأيادي البيضاء، فقد مرَّ عليَّ مشهد آخر في هذه الأيام الفضيلة وهم شباب في سِن مُبكرة يلبسون سترات، ويقفون على نواصي الطرق وتقاطعات الإشارات الضوئية والدوارات يُوزعون الإفطار على المارة قبيل الأذان بدقائق، ما لفت الانتباه هو صِغر سن هؤلاء الشباب وتفانيهم في بلوغ كل السيارات المحتشدة تعتليهم الابتسامة الصادقة وهم يقذفون المظاريف وينظرون بنظرة خاطفة لمن في المركبة لمنح الجميع حصته من الإفطار، عندما رفعت المظروف وجدته يحمل اسمَ رجل جند مؤسسته للأعمال الخيرية في مختلف مناطق السلطنة وخارجها، وأصبح الاسم معلومًا ومقرونًا بمعاونة الفقراء والمحتاجين، فرحم الله هذه الأيادي الندية بعطاء الخير، وكثر من أمثالهم في مجتمعنا.

نحمد الله أن قيَّض لنا في هذا الوطن قيادة حكيمة منحتنا بعد إرادة الله الأمن والاستقرار الذي شاهدناه معدوما في وجوه الآخرين ممن حلت بهم المأسي والنكبات، ونسأل الله أن تلين عقول الساسة وأن يعودوا إلى جادة الصواب لمعالجة جراح أوطانهم ولملمة شتات أهليهم في مختلف بقاع الدنيا، ونسأل الله كذلك أن ترق قلوب التجار وأصحاب الأموال على إخوانهم من الفقراء والمحتاجين.. اللهم آمين.