لن تغير الحربُ الموقف الإيراني

 

إدريس هاني

هي بالفعل حرب إرادات، والأزمة لها بدايات قديمة، لقد اختار جناح داخل الولايات المتحدة الأمريكية طريق الحرب والحصار ضدّ طهران منذ الوهلة الأولى، انتصر رأي برجنسكي وارتهنت العلاقات لهذا الموقف.. واشنطن لسيت قادرة على أن تغير موقفها من طهران.. لواشنطن مطالب قديمة ولإيران مطالب قديمة، والحرب بالوكالة ومن دون وكالة سيان في حسم حرب الإرادات.. لقد لجأت واشنطن إلى العقوبات الإقتصادية لأنها عاجزة عن الحلّ العسكري واليوم قد يُقال إنها تلوح بالحرب لأنها عجزت عن فرض الحصار الاقتصادي، فلا زال الوضع رهين مفارقة تعكس الشّلل النّصفي للديبلوماسية الأمريكية التي بلغت أوج مفارقاتها مع إدارة ترامب.

الحرب في الخليج الفارسي إن كانت بالقوة أم بالفعل فهي حرب ذات دلالات جيوستراتيجية ولكنها تقدّم علفا لا عقلانيّا يجعلها ضربا من حروب الأديان والطوائف، وهي العنوان الذي يجد في العقل الرجعي كل القابلية لاجترار المقولات الخاطئة، هذه الأديان والطوائف والقوميات التي انبثقت وتشاركت العيش في الإقليم قبل اكتشاف أمريكا وقبل وجود الكثير من الأقطار العربية نفسها التي حملت مشعل هذا الوهم القاتل. فحين تتحرك حاملةالطائرات الأمريكية وقاذفات بي-52 فوق مياه الخليج فهذا لن يكون لأجل سواد عين دول إقليمية بل هو مناورة انتصر فيها جناح أمريكي معين يرى أنّ هناك طريقة أخرى لاستعادة الهيبة الأمريكية التي تشهد انهيارا كبيرا بل تشعر بجرح غائر إزاء الفشل الكبير في إنجاز المشروع الأمريكي في المنطقة. فأن تخرج واشنطن بلا مكسب من هذه المعركة أمر لم يكن من السهولة تحمّله، ولقد كان انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع طهران مجرد ضغط باتجاه تحسين مكاسب واشنطن لكنه لم ينفع، فكانت المرحلة الجديدة من الحرب النفسية القصوى. لم يكن ترامب يريد إنهاء الاتفاق النووي بل كان يضغط باتجاه إعادة إنشائه على أرضية شروط مختلفة، لكن طهران حوّلت سياسة الإرغام المتبعة من قبل ترامب إلى هزيمة بحيث تحللت من الاتفاق بطريقة رسمية. هل يا ترى يريد ترامب إعادة إيران إلى الاتفاق عن طريق الإرغام؟ هذا يؤكّد على أنّ جناح ترامب والمحرّضين على هذا النوع من الحروب يجهلون أنّها لن تكون حربا حاسمة لأنّ الذي سيرسم نهاية هذه الحرب هي المفاجآت التي ستعرفها المنطقة في حال نشبت الحرب. ويبدو أنّ مفارقات التلويح بالحرب في أفق الحرب النفسية الموسّعة ضدّ طهران بدأت تظهر في شكل تصريحات غير منسجمة مع القانون الدّولي ومنها على سبيل المثال تهديد ترامب عبر تويتر لطهران بتدميرها وإنهائها رسميّا لو فكرت في الحرب، لكن من يتحرك بأسطوله وقاذفاته ويعلن الحرب ليل نهار غير ترامب، وهذه صيغ تحمل في طياتها رسائل بأنّنا لا نريد الحرب، لكن ماذا يريدون إذن؟ هل هي طريقة أخرى لإعادة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة؟ هل الأقليم يدخل في عهد حماية؟ تعلن طهران مرارا أنّها معنية بالسلم في المنطقة وبأنها في طليعة من حارب الإرهاب ميدانيا بتحالف مع دول صديقة لها مثل سوريا والعراق، وحاولت مرارا تبديد غياب الثقة مع جيرانها، لكن أيضا كيف يمكن أن تبنى الثقة حين يتمّ التعامل مع طهران بوصفها الدولة المارقة؟ كيف يمكن أن يكون حلفاء واشنطن ضدّ الدولة المارقة يخوضون حروبا مارقة ويسعون أيضا للهيمنة على المنطقة على أرضية المشروع الأمريكي. فالنزاع هو أبعد مدى مما يعكسه الإنشاء اليومي حول حرب الإرادات المذكورة.

أراد ترامب عبر التلويح بالحرب أن يستعيد تجربة بيونغ يانغ مع طهران، غير أنّه فشل في إرغام طهران كما فشل في القفز على تناقضات المنطقة، وربما أدرك في وقت متأخر أن طهرانّ ليست بيونغ يانغ وأنّ المشكلة هنا شديدة التعقيد وتتداخل فيها معطيات مختلفة. يسعى ترامب إلى الخروج من الحرج بزمجرة الحرب، فلقد فشل في إدارة أزمة ما بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، وهو موقف رفضه الطرف الأوربي واعتبره مغامرة. في البداية راهن على العقوبات الاقتصادية لا سيما بعد أن بدا من خلال تقارير وتقديرات استخباراتية من إسرائيل وخصوم إيران الإقليميين بأنّ إيران تعيش على إيقاع أزمة اقتصادية خانقة، لكن تبيّن أنّ الأمر ليس كما تعكسه تلك التقارير فأصبح الإرغام عبر حرب نفسية مشدّدة.

من جهتها عبرت إيران عن طريق وزير خارجيتها محمد جواد ظريف بأنّ إيران لا تريد الحرب ولا أحد من الأطراف يريدها فضلا عن أنّ الجميع يدرك أن لا أحد يمكن أن يحارب إيران، معتبرا القدرة على محاربة إيران في المنطقة من الأوهام. ولا زالت الحرب حتى الآن في حدودها الاستخباراتية كما لمّح قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، الذي وصف ما يقع بأنه خليط من الحرب النفسية والحراك العسكري والديبلوماسية العلنية وزرع الخوف، وعزى ذلك إلى كون هيبة واشنطن على وشك بلوغ نهايتها، وعلى ذاك الأساس سبق وأشار اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس إلى استبعاد نشوب حرب بين طهران وواشنطن كاشفا عن أن وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) أبلغت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بضرورة عدم الاشتباك مع إيران حتى لو كان اشتباكا جزئيا، وبأنّ أي اشتباك يمكن أن يتحول إلى حرب لا أحد يعرف نهايتها.

وضمن هذه التلويحات التي تستند إلى معطيات استخباراتية تأتي تسريبات من الطرف الآخر كتلك التي كشفت عنها الواشنطن بوست عن جملة اتصالات قام بها رئيس فيلق القدس بفصائل المقاومة تزعم التسريبات أن اللواء سليماني قد أخبر تلك الفصائل بأن "أمريكا وإيران قد تنزلقان للحرب بالرغم من إعلانهما عن عدم رغبتهما بذلك".

وعلى الرغم من تلك التسريحات المتبادلة والتي تقتضيها الحرب النفسية أيضا عبرت الواشنطن بوست على إمكانية وقوع مثل هذه الحرب واحتمالها، فالحرب قد تندلع لمجرد حساب خاطئ واحد فمن يا ترى يملك إيقاف حرب من هذا القبيل إن هي انطلقت، تقول الصحيفة نفسها: “بعد أسبوع واحد من هذه المكالمات، تعرض موكب أميركي كان متجها من المنطقة الخضراء لمطار بغداد إلى تفجير، وقد قتل حينها مسؤول سياسي رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأميركية وثلاثة دبلوماسيون وضابط في الجيش الأميركي”.

في مثل هذا الوضع يدرك الجميع خطورة هذه الحرب وتداعياتها المحتملة وآثارها المدمرة ونتائجها المخيبة لآمال من يصفّق لها، فأمريكا لن تمحو إيران من الخريطة فقط لأنّ رغبة ترامب في الخروج بماء الوجه بعد انسحابه من الاتفاق النووي أمام منافسيه وخصومه الذين وصفوا موقفه ذلك بأنّه غير ناضج سياسيا وديبلوماسيا، أما نتنياهو فهو الأكثر قلقا على الرغم من أنّه متحمّس لهذه الحرب التي يراها بلا ضمانات، فلقد حشرته طهران في زاوية حرجة وهو يعتبر خروج واشنطن من المنطقة هدية مجانية لطهران، لكن ترامب عاد إلى المنطقة بصفقة القرن وبقوات على خلفية التلويح بالحرب، غير أنّ الحرب إن انطلقت لن يكون نتنياهو في وضعية سهلة وهو ما يقتضي الزج بواشنطن في معركة تراها اليوم إسرائيل قضية نكون أو لا نكون. التصعيد الذي قام به ترامب حيال قضايا النزاع هو يؤكّد على أن أمريكا وإسرائيل ومحاورهما خسروا في المنطقة وهم يحاولون أن يثأروا من طهران، لكن طهران التي ترفض الحرب أيضا تملك قدرة هائلة على التعبئة لحرب طويلة الأمد ولمقاومة شرسة من قبل شعب سبق للسفير الأمريكي الأسبق في طهران سوليفان مطلع الثورة أن وصفه بالوحش. ستبدو المنطقة بما فيها المصالح الأمريكية رخوة أمام آلاف الصواريخ الإيرانية التي طورت في تقنيتها وقوتها التدميرية، ففي ثواني تستطيع طهران شلّ موانئ كثيرة في المنطقة ورشق عواصم متعاونة مع واشنطن وإسرائيل في الحرب بصواريخ قد تطال البيت الداخلي لقادتها بل إنّ إسرائيل ستتحوّل إلى مهرجان من القذائف، بينما الممر المائي الأكثر استراتيجية سيغلق بالكامل، هل يا ترى ستلقي أمريكا على إيران القنبلة النووية وهي التي دعتها للتخلي عن برنامجها النووي؟ الحقيقة التي تجهلها بروباغاندا الحرب هي أنّ تطويع إيران للمشروع الأمريكي لن يتحقق حتى فيما يتبقّى من حرب نووية افتراضية ضد إيران، إن كان هناك حديث بيولوجي عن بقاء كائنات تتكيف مع ما بعد الحرب النووية فهو الجنس الإيراني، ولا يمكن كسر الإرادة الإيرانية المشبعة بعقيدة التّحدّي حتى بحرب نووية مستحيلة، فلم المغامرة بحرب غير محسومة العواقب؟

تعليق عبر الفيس بوك