"وَعَجِلتُ إِليكَ رَبِّ لِتَرضَى"

 

محمد علي العوض

كَلِفٌ أنا بالقصِّ القرآنيِّ، وبما يتميز به من بناء لُغوي مُحكم، وتشييد فني مُعجِز؛ علمًا بأنّ الفن لم يكن مُراد القصة القرآنية؛ لأنّ القرآن ليس كتابا أدبيا لذاته، رغم فصاحته وبلاغته، وليس سِفرًا تاريخيًّا أو جغرافيا رغم احتوائه قَصصَ الأولين والآيات الكونية؛ فهو لا يشبه أي كتاب علمي؛ بل هو كتاب شامل لكل مناحي الحياة: الدين والدنيا؛ فقد شمل العقيدة والتشريع ومخاطبة النفس الإنسانيَة عقلا وعاطفة.

القصّة في القرآن مُسخَّرة لتحقيق هدف محدد أسمى هو الإيمان بالله وطاعته وإثبات وحدانيته؛ بجانب أغراض أخرى كبيان عاقبة الشر والخير، وتزكية النفس...وغيرها. ولوصول هذه الرسالة، تتوسل القصة أساليب فنية شتى، تحضر بمكوناتها وعناصرها؛ من: مشاهد، وشخوص، وحوارات، وزمكان.

الحوار أحد الأساليب المستخدمة في عرض القصص ورسم الشخصيّات فيها، وإيراد الأحداث وتطوُّرها، وهو عاملٌ أساسي في تجسيد المواقف وإحياء المشاهد والانفعال بالحدث، فضلا عن قدرته على تصعيد الحدث بحسب المراحل وانفعالات الشخصيّة. كما يملك الحوار خاصية الكشف عن فحوى الصراع/ التعارض أو حتى التناغم/التكامل داخل حركة الشخصيات والنص. ويضطلع الحوار في الكتابة السردية بعدد من المهام؛ من بينها مثلا: إخبار القارئ بالمعطيات المرتبطة بالأمكنة والزمان الذي تجري فيه الأحداث، إضافة لأفعال وحركات الشخصية، وعواطفها وأفكارها وآرائها، ويمكن القول أنّ الحوار داخل النص يشغل عدة وظائف أخرى؛ منها: وظيفة التفسير والإخبار بعناصر الحبكة الروائية، ورسم مجرى الأحداث. كذلك يُؤدي الحوار وظيفة درامية حين يعمل على تحريك الأحداث وإبراز العقدة والصراع. أما الوظيفة التي تُعنى بها هذه السطور، فهي الوظيفة الوصفية؛ وفيها يعكس الحوار سمات الشخصية النفسية وطريقتها في التعبير عن مواقفها وأحاسيسها وآرائها، وتسليط الضوء على عنصر الصراع والعامل المُعيق الشخصاني. وتتبدَّى هذه الوظيفة بصورة جلية في القص القرآني، الذي رسم السارد فيه معالم الشخصيّات وعبّر عن خواطرها وحالتها النفسية؛ كصاحب الجنتين الجاحد المتفاخر بالنعمة مثلا، أو شخصية قارون، أو سيدنا يونس وقد أثقله الغم وكظمه "فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم".

ومنه أيضا تصوير القرآن لفؤاد أم موسى، وعرض حالتها النفسية من خلال إيحاءات النسق القرآني الذي نستشف منه حالة الفراغ العاطفي والوجداني لفقدها ابنها موسى عليه السلام "وأَصْبح فُؤَاد أمّ موسَى فَارِغا إِنْ كَادَتْ لَتُبدِي بِهِ لَولَا أَن رَبَطنَا عَلى قَلبِها لِتكونَ مِنَ المُؤمنين"، ثم قوله تعالى: "فرددناهُ إلى أُمّه كي تقرَّ عَينُها ولا تَحزن ولتَعلمَ أَن وعدَ اللَّه حَق وَلَكن أَكْثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ"، وعرضنا هنا لقصة موسى -عليه السلام- لأنّها أكثر القصص القرآنية ورودا وتكرارا وتنوعًا في العرض؛ فأحيانا تأتي مكتملة، وأحيانًا يُحذف منها في بعض السور ما يُذكر في سورة أخرى، بجانب تميزها بتعدد أنماط السرد من وصف وإخبار وحكي وحوار.

وقد لقب سيدنا موسى بكليم الله ربما لكثرة نمط الحوار بقصصه في القرآن، والتي صوَّرت انفعالاته وحالته العاطفية والشعورية أثناء محاورته ربَّه؛ مثالا وليس حصرًا: تأدُّبه وتشوُّقه لربه، وتعجُّله للقائه طمعًا في رضائه: "وَعَجِلتُ إِليكَ رَبِّ لِتَرضَى".

والقصة أنَّ بني إسرائيل قبل أن يعبُدوا العجل انطلق موسى -عليه السلام- لملاقاة ربه، بعد أن خلَّف عليهم أخاه هارون، ولما صعد موسى الجبل أخبره الخالق عز وجل بما حدث لقومه في غيابه، وبادره المولى بسؤال: "وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى"؛ أي: ما حملك على أن تسبق قومك بني إسرائيل. ليُجيبه موسى عليه السلام: "قَالَ هُم أولَاء على أَثَرِي وَعَجِلتُ إِلَيكَ رَبِّ لِتَرضَى".. يقول القرطبي إنّ قوله: هم أولاء على أثري لا يريد أنهم يسيرون خلفه مُتوجهين إليه، بل أراد أنَّهم بالقرب مني ينتظرون عودتي إليهم. وقيل: لا، بل كان أمَر هارون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به. وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. وقيل: لما وفد إلى طور سيناء بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الأمر وشق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلَّفهم ومضى وحده. وقال ابن عباس: كان الله عالما، ولكن قال وما أعجلك عن قومك رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه؛ فقال مجيبا لربه: هم أولاء على أثري.

ويتواصل الحوار الإلهي مع موسى عليه السلام، فيخبره الخالق بما وقع فيه قومُه من فتنة: "قال فَإنّا قد فتنَّا قومكَ مِن بعدِكَ وَأَضلهم السّامرِيّ"، ليتغيَّر شكل الحوار من المناجاة وحال الشوق والفناء في أثر وحضور المحبوب، إلى شكل آخر يطوي شكلَ المناجاة، ويسهم في تحريك الأحداث القادمة، ويصنع لها مجرى جديدا من خلال حركة سيدنا موسى ورجوعه إلى قومه: "فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا..."، وليعكس الحوار الإلهي الانفعال الجديد، وغضبه على قومه لرجوعهم للشرك مرة أخرى، وتنتقل الآيات للقطةٍ حوارية ومشهد آخر قوامه سيدنا موسى وهو يخوض حوارا مع قومه: "... يا قَومِ أَلم يَعِدكُم رَبكُم وَعدًا حَسَنًا أَفَطَال عَلَيكمُ العَهدُ أَم أَرَدتُّم أَن يَحِلّ عَلَيكُم غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُم فَأَخلَفتُم مَّوعِدِي".. في مشهدية حوارية بدأها موسى بالاستفهام والتثبت، قبل أن يُنهيها بالوعيد والتحذير.

وتتبدى بلاغة الحوار الإلهى مع موسى في قدرته على عكس سمات الشخصية النفسيّة والتعبير عن انفعالاتها تبعًا للمواقف والمشاهد وتبدلها مثلا من حالة الوجد والشوق إلى انفعال الغضب كما سبق أعلاه.