أطفال الأسر المعسرة

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يكون هناك 20 طفلا في مدرسة واحدة فقط، لا تتمكن أسرهم من أن تمنحهم ما بين 300- 400 بيسة يوميا كمصروف مدرسي، فكيف ستكون أصلا أحوال أسرهم السكنية والمعيشية؟ وما هي الآثار النفسية المترتبة على أطفال هذه الأسر في ظل تردي أوضاع أسرهم؟ وما هو مستقبل أوضاع هذه الأسر في ظل عصر الضرائب والرسوم؟

ملف نفتحه في هذه الأيام المباركة في ضوء هذه القضيّة، لكن من منظور شمولي بهدف البحث في كيفية تحسين أسلوب حياة الأسر المعسرة التي تظهر من خلال قضية الأطفال معدومة إذا كان تقف عاجزة فعلا عن دفع مصروفات أطفالها المدرسية اليومية.

وهناك تساؤلات مهمة جدا لن نجد لها إجابة في هذا المقال، لأنّها تحتاج لعملية استقصائية أو بحثية قد نستكملها في مقال آخر، لعل أبرزها، هل هذه الأسر المُعسرة من ضمن فئات الضمان الاجتماعي أم من خارجها أو هما معا؟ فمن الأهمية الاجتماعية البحث عمّا يطرحه التساؤل من خلفيات.

وعندما نتصور ذهنيا مشهد 20 طالبًا في مدرسة عدد طلابها قرابة 700 طالب أو أكثر، وهم يشاهدون زملائهم يوميًا يتسابقون للمقاصف بعيد دق الجرس معلنا بدء الاستراحة "الفسحة" المدرسيّة اليومية، بينما هم يتفرجون عليهم، وبطونهم يقرصها الجوع في حسرة وندم طفولي - أي خارج سياق الوعي - ليتراكم ذلك معهم في منطقة اللاوعي، يوجع القلب كثيرًا، وتتأثر به كل الجوارح، ومن ثم لابد أن يعتبرها قضيّة اجتماعيّة.

هذه القصة حقيقية، وصفها الأخ العزيز علي بن محاد غواص "بوشهاب" في منشور له عبر فيسبوك، ووقفنا على تفاصيلها معه بالدقة، وقد تعرّض لها بصورة مفاجئة في مدرسة ابنه، وقد ظهرت هذه القضية بعد وفاة أحد المحسنين الذي كان يتكفّل بالمصروفات اليومية المدرسية- عليه رحمة الله وغفرانه- وامتناع الورثة عن الالتزام بنفس النهج.

وإذا كان هذا العدد في مدرسة واحدة فقط، فكيف ببقية المدارس في محافظة ظفار؟ وبالتالي، كم نتوقع العدد الإجمالي للأطفال الذين لا تسمح ظروف أسرهم المعسرة بمنحهم مصروفا مدرسيا يوميا؟ هذه القضية تعطي الكثير من المؤشرات التي ينبغي أن تدرس لمعرفة المآلات الطارئة على نظامنا الاجتماعي من جراء السياسات المالية والاقتصادية، ودور الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين في هذه القضية، وكيف ضمانة العمل الخيري وديمومته بعيدا عن أمزجة القائمين عليه أو انتقالهم إلى الرفيق الأعلى؟

ومن ظفار، يمكن توسيع الرؤية على مستوى كل محافظة من محافظات البلاد، وهذا شأن الفاعلين داخل كل محافظة الذين عليهم القيام بعملية استقصائية في كل المدارس بعد أن فشلت مجالس الآباء في القيام بدورها، وهذه ثغرة تعكس لنا بوضوح سلبية هذه المجالس - كما تناولها بوشهاب- فلو كانت فاعلة لما برزت الكثير من القضايا كقضيّتنا وكقضيّة التسرّب والتدخين وتدني المستويات التعليمية.. إلخ كما لا يمكن الرهان على المجالس البلدية "ظفار نموذجا" فمن خلال قربنا من بعض أعضائه، فهم يرون أنفسهم كجزء من المنظومة الحكومية "للأسف".

الرهانات الآن على الفاعلين داخل كل مجتمع محلي "الناشطين" فمن خلال استمرار نجاح بعض تجاربهم المهمة، يمكن الاعتداد بالدافعية التي تقف وراءهم، ولنا على سبيل المثال جمعية بهجة للأيتام وفريق الأيادي البيضاء، فالدافعية هنا الشعور بالواجب الوطني الخالص والمسؤولية الاجتماعية المجردة بعيدا عن الأضواء والمنفعة الذاتية والاجتماعية إرضاء لوازع الضمير ومرجعيته التأطيرية، وكل جهد أو فكر يخرج من مثل هذه المصانع يكتب لها النجاح، والعكس صحيح، والدليل فشل المجالس والمؤسسات العاملة في المجال الاجتماعي غير الربحي.

وقد وجهنا في مقالات سابقة الدعوة إلى توسيع نطاق اختصاص جمعيّة بهجة الناجحة بامتياز، فبدلا من أن تحصره على الأيتام فقط، نطالب مجددًا بتوسيعه ليشمل كذلك الحالات المعسرة، وما يظهر فوق السطح من مظاهر دالة عليها، لأنّ هناك حالة فراغ بنيوية، فمن يشغلها؟ فريق الأيادي البيضاء متخصص في العلاج الطبي والإيوائي لمرضى ومرافقي الأشقاء اليمنيين، ومظلة الضمان لن تشمل كل الحالات، وإن شملت فإنّ دعمها المالي لن يؤمن لها كل المتطلبات الأساسية، وجمعية بهجة للأيتام، فمن للحالات المعسرة الأخرى؟

من هنا يظهر لنا أنّ المجتمع في أمس الحاجة إلى كيان خيري مستقل لمساعدة الحالات الاجتماعية المعسرة حتى لا نتركها خارج قطار السير الآمن، خاصة وإن قراءاتنا المستقبلية لدور الدولة الجديد، تشير إلى أنّ الدولة لن تعد قادرة "كما كانت في السابق والآن" أن تظل فاعلة لوحدها في القطاع الاجتماعي، لذلك لابد من إدارة هذه المرحلة من الآن، ويبدو أنّ الجهات الحكومية المختصة لم تدرج هذا الملف ضمن اهتماماتها- رغم أهميته- أو أنها مرتبكة من مشهد التحول في دور الدولة الجديد في ظل هواجسها الأمنية القديمة، بدليل تأخر قانون العمل الخيري حتى الآن.

وربما علينا، أن نتوجه في هذه اللحظات المباركات إلى الشركات الحكومية والخاصة وكذلك إلى كل فاعل في كل مجتمع محلي أن يفتح ملف الحالات المعسرة داخل نطاقه الترابي، من اتجاهين، الأول ضمانة المصروفات اليومية لأطفال الحالات المعسرة بدءا من العام الدراسي المقبل على اعتبار أنّ هذا العام على وشك الانتهاء وذلك بالتعاون مع المديريات العامة للتربية والتعليم في المحافظات، فلو أخذنا ظفار نموذجا، فهناك شركات كبرى كالميثانول وريسوت وأوكتال.. تخصص سنويا مبالغ مالية كبيرة للمسؤولية الاجتماعية، نقترح إعادة النظر في مجالات إدارتها وصرفها لتوجيهها نحو الغايات الاجتماعية المستحقة، فلماذا لا يكون هناك صندوقا مشتركا في كل محافظة لأموال المسؤولية الاجتماعية تشرف عليه مؤسسة الوالي؟

فاحتياجات الحالات المعسرة كثيرة، ليس فقط فيما ذكرناه سابقا، كما أننا لا نفي دور هذه الشركات في تعليم أبناء هذه الحالات في الجامعات.. ولها أيادٍ بيضاء كذلك كالحقيبة المدرسية؛ لكننا نتحدث هنا عن الاستفادة الشمولية والأمثل لأموال المسؤولية الاجتماعية في مرحلة دور الدولة الجديد، فمنازل هذه الأسر تحتاج الآن إلى إعادة ترميم وإلى احتياجات أساسية للمنازل. وهذا يؤكد على أهميّة إقامة الصندوق في ظل ما تعلنه بعض الشركات والمؤسسات المالية من رفع مساهمتها المالية في المسؤولية الاجتماعية بصورة ملموسة.

مثلا، شركة في ظفار تخصص مليون ريال سنويا، وأخرى رفعت مساهمتها إلى 400 ألف سنويا، وأحد البنوك اعتمد 380 ألف ريال للمسؤولية الاجتماعية؛ والقائمة طويلة، فلماذا لا تجمع هذه الأموال في صندوق داخل كل محافظة، ويتم تدويرها بصورة منظمة وهادفة نحو أولويات اجتماعية عوضا عن عشوائيتها واستفراد كل شركة ومؤسسة بصرفها وفق أمزجة ومسارات بعيدة عن غايتها الحقيقية وصنع التكامل في تحقيق أهداف المسؤولية الاجتماعية.

هذه دعوة نوجهها في هذه الأيام المباركات، ونتمنى أن تشهد فيها عملية التحول في مسارات المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات والأفراد، ونقترح التحضير لندوة في كل محافظة خلال هذا الشهر الكريم، لدراسة إقامة الصندوق على أن يكون كل المساهمين فيه من شركات وبنوك وأفراد. أعضاء مؤسسين فيه تحت رئاسة مؤسسة الوالي وبعضوية فاعلين اجتماعيين محليين نشطاء خالصين ومجردين.. على أن يحتوي كذلك أموال زكاة كل محافظة. فهل ستكون هناك أسرة معسرة؟ هل هنا نطالب بالمستحيل؟ طبعا لا، هذا ممكن لو توفرت النوايا الصادقة، وما أحوجنا لها، وهي الآن منفتحة مع كل عمل خيري. ففي هذا الشهر الفضيل تتضاعف الحسنات، وفيه تحدث النقلات الكبرى، لعلّ أسماها العتق من النار، فمن يحرم نفسه منها؟ اللهم اجعل الأثر الطيب فيما نقوله ونقترحه، واعنا على صيام وقيام هذا الشهر الفضيل، واعتق رقابنا وكل من له أيادٍ بيضاء في خدمة مجتمعه من النار، كما نسألك اللهم أن تنصر إخوتنا في غزة على الكيان المغتصب، اللهم اشدد من أزرهم، وادخر عدوهم وعدونا، اللهم آمين.