د. صالح الفهدي
أستعيرُ هذا العنوانَ المعبِّر من عنوان روايةٍ ألَّفها (جان دومينيك) وهو واحدٌ من أشهر الكتَّاب والصحفيين في فرنسا، ومُعجزة هذه الرواية أنها كُتبتُ حرفاً حرفاً بحركةٍ من رموش العينِ اليُسرى، لأنَّ الكاتبَ كان عاجزاً عن الحركة عدا رموش عينه اليُسرى، فلم يمنعه ذلك من كتابة الرواية التي حوَّلها فيما بعد المخرج الفرنسي (جوليات شنابل) إلى فيلم سينمائي عام 2007م.
لقد صوَّر الكاتبُ روحه – وهو مشلول الجسد- وكأنَّها فراشةٌ محصورةٌ داخل بدلة غطسٍ قديمة، مخنوقة الأنفاس، مسلوبة الحريَّة، لا تستطيع أن تجد منفذاً في تلك الظلمة الموحشة، ولا أن تشتم نسمة هواءٍ تُشعرها بأملِ وجودِ طريقٍ للخلاص من هذا الجسدِ الخامدِ الذي فقد وظيفته.
وإذا أسقطنا هذه الصورة المروِّعةُ يُمكننا أن نراها في صورة الإنسان الذي يتوق للانعتاق من قيودِ الحاضر، ومحدودية العيش فيه بما في ذلك من أفكار وعادات ومُمارسات إلى فضاء المُستقبل الذي يعيشُ فيه عالمه الأرحب؛ ذلك العالم الذي يجدُ فيه متسعاً للحريَّةِ، ومجالاً للإبداع.
بيدَ أنَّه كالفراشةِ داخل بدلة الغطس القديمة التي هي كناية عن المجتمع الذي ارتضى أن يُكرر ذاته، ويعيش رتابة الحياة التي لا يحرِّكُ فيها ساكناً. المجتمع الذي يأبى الانعتاقِ من ماضيه، متدثِّراً بالجلابيب ذاتها التي ورثها عن آبائه وأجداده دون تجديد وتحديث لخوفٍ يعتورهُ من أيِّ تغيير يمكنُ أن يضلَّه عن طريق الأسلاف!
في مثل هذا المُجتمع الأشبه ببدلة الغطس القديمة، تتردد روح الإنسان الشبيهة بالفراشة بين جنباته باحثةً عن المستقبل، عن بارقة أملٍ للتغيير، عن نور تتلمسه نحو فضاءٍ أوسع، في الوقتِ الذي تتطلعُ فيه مُجتمعات التغيير إلى النقلات الكبيرة التي تدفعها نحو الفضاءات المستقبلية الأوسع، من خلال تحديثات في منظومة الأفكار، والقيم، والعادات، والتعليم.
إنَّ مُجتمعاً لا يتطلع نحو التغيير، ولا ينظر بشغفٍ نحو المُستقبل هو أشبه ببدلة الغطس القديمة التي تذوي فيها الأرواح المبدعة، بعد أن تكلَّ بحثاً عن الانطلاقِ بعيداً عن تلك البدلةِ البالية المُغلقة!!.
وحتى أكونَ مباشراً في طرحي فقد شبَّهتُ مجتمعاتنا ببدلة الغطس القديمة التي تمنعُ الفراشات/الأرواح المبدعة من التحليق نحو فضاءِ المستقبل الرَّحب، لتطويها الأعمار دون أن تجدَ فرصةً لإثبات قدرتها على الإسهامِ في تغيير مُجتمعاتها.
مجتمعاتٌ لا تكادُ تلمسُ فيها تغير الأفكار، إذ إنَّك إن استعرضتَ طرق تفكير الناس على مدى عقودٍ مرَّت فإنَّك لا تكادُ تفنِّدُ الجديد الموائم للعصر، والأفكار هي أساسُ الحياة، فإن لم تتغيَّر فستظلُّ الحياةُ على عاديَّتها، وتكرارها.
إنَّك إن تمعَّنت في اللغة اليومية للنَّاس، بل لغة التواصل حول قضاياهم المصيرية فإنك لا تكاد تلمسُ لغةً تختلفُ عن ثلاثين سنة أو عشرين سنة خلت، لأن المدخلات هي ذاتها التي تتلقاها الأجيال نظراً لعدم وجود تغيير جذري يقود إلى ثورةٍ في الفكر تتصل بما سبقَ فيما يتعلق بالإرث القيِّم، وترتبط بالمُستقبل الطموح بصورةٍ أعظم.
ولا شكَّ أنَّ الأُمم التي تُريد أن تحدث نقلةً تاريخيَّةً في مُجتمعاتها لابد وأن تقوم بعمليَّة تغيير جذري، مثل عُمان قابوس التي وضعت عام 1970م كل مقدَّرات الدولة في سيرورة التاريخ لتكمل طريقها الحضاري، واليابان بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وسنغافورة لي كوان يو 1965م وماليزيا مهاتير 1981، وراوندا بول كاغامي 2000م، وغير ذلك من الأُمم التي تستطيع أن تُحدث نقلات تمزِّق فيها بدلة الغوص لتنطلق في فضاءات التغيير الرحيبة، وقد كسَّرت الأغلال الثقيلة التي كبَّلتها عن الحراك الحضاري.
وإذا كانت الأمواج العظيمة قد تتمكَّن في ظرفٍ تاريخيٍّ معيَّن من إزاحة الصخور المعيقة أمام الأُمم في طريق المُستقبل، إلاَّ أنَّه وبعد مضيِّ أمدٍ من الزَّمن سوف تخمدٍ تلك الأمواج وسرعان ما تعود إثر خمودها الصخور المعيقة مرَّةً أُخرى، وهنا تحتاجُ إلى موجات تغيير أُخرى تجدِّد فيها روح العزيمة والإرادة من أجل مُتابعة السير قُدماً نحو المستقبل، مخترقة بدلة الغطس التي تكوَّنت من جديد، وتقادمت بفعل عوامل التعريةِ الطبيعية، والتراخي في الهمم البشرية لأسبابٍ شتَّى، وهذا ما حدث في ماليزيا بعودة ماهتير محمد مرة أُخرى إلى دفَّة الرئاسة ليُجدِّد في مضاء الروح الماليزية التي أوقد أُوراها، وأشعل لهيبها إبَّان رئاسته الأُولى.
لا يُمكنُ لأيَّةِ أُمَّةٍ أن تستقرَّ في أحوالها بمعنى ألا تتحرَّكَ للتغيير فالقدر يحبُّ السعي كما يُقال، والتغيير يحتاج إلى إرادة وقَّادة، وما لم تؤمنُ الأمة - مؤسساتٍ وأفراد- بأنها يجبُ أن تنتقل إلى مرحلة متقدمة فلن تشمَّ نسمة التغيير، وستتوالى أجيالٌ بعد أجيال دون أن يكون للمجتمع وجهٌ مختلفٌ عن الوجه السابق.
إذن: ما هي قيمة إرث الأُمم التي لا تحدثُ التغيير في الحياة؟ وكيف لها أن تُفاخر بحياة صنعها أسلافها؟ وكيف لها أن تجد منفذاً من بدلة الغطسِ وهي تخدِّر عقلها بالماضي وأمجاده التالدة؟