دروس من رسالة نوح لقومه، وعنت الدعوة إلى الله

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

 

المتأمل لأحداث هذه الدعوة الممتدة من الدهر ما يقرب من ألف سنة، من البلاغ والتكرار والتنوع الخطابي ، وأساليب الدعوة مع الفصاحة والبلاغة ، ثم يفجأ بضحالة العدد المستخلص من أمة الإجابة فيجده "وما آمن معه إلا قليل" ، يستوقفه العجب !! أشد العجب!!، ويألم أشد الألم من طبيعة هذا النوع الإنساني المتعنت اللاد في الخصومة والمعرض أيما إعراض، رغم إحاطة وسائل الإقناع به من داخله وخارجه ، ورغم عظم ما يتوعد به حال هذا الإعراض وما ينتظره في عاقبة هذا الصدود في حياته ، وبعد أن تقوم الأرواح بين يدي رب العالمين ، حين ينقطع بهم الجواب وتغلق عليهم الحجج ، وتعمي عليهم الأنباء ، ثم تنطق عليهم الجوارح شاهدة بما كانوا يعملون .. فلا مفر إذا مما ينتظر من العذاب في الأولى والأخرة ، فكيف تسول هذه النفوس لأصحابها أن تتمادى في الغي وتستمرأ في الصد حتى تورد أصحابها المهالك "مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)"نوح ..

هذه الأمم التي امتحنت بالرسالة لتقوم ما اعوج من أخلاقها، وما شوه عقيدتها من عبادة الطاغوت التي اجتالتهم بها الشياطين وصدتهم بها عن سواء الصراط، فجرفت فطرتهم السوية التي فطرهم الله عليها وقد كانوا حنفاء مسلمين، لكن عناية الله اقتضت أن تشمل برحمتها البر والفاجر وقد خلق الله الخلق ثم لم يشأ أن يتركهم هملا بدون حاد يهديهم ــ كما يزعم الفلاسفة أن الله قد خلق الكون والخلق ثم ترك أمره إلى نفسه ، وهو محض افتراء ـــ فاقتضت الرحمة أن يكون نوحا إلى قومه مبشرا ونذيرا من قبل أن يعاقبهم على تشويه الفطرة والانحراف عن عقيدة التوحيد، فقال"إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)"(نوح).

وقد نرى من خطاب الدعوة لنوح إلى قومه ما يكاد يدمي القلب والعين ويستثير سوي النفوس صاحبة الفطر النقية، هذا الخطاب الذي ملؤه تودد واسترحام وتقرب، يكاد تزهق نفس صاحبه حرصا على نجاة قومه من العذاب، واستنقاذهم من ظلمة الكفر وأخراجهم إلى نور الصراط المستقيم، ثم اعتذارا إلى ربه من خشية التقصير في التبليغ، أو الميل الفطري الذي يدفعه للشفاعة  لأقرب الناس إلي نفسه وهو ابنه على حساب صدق الأداء في التبليغ عن الله " قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)"(نوح)..

 ثم نرى في المقابل هذا الخطاب الذي كله عنت وصلف وكبر وغرور وصدود عن دعوة الحق ، بل وتوعد صاحب الدعوة بالرجم واتهامه بالجنون ، والدعوة المضادة للصبر على الآلهة المزعومة ، واتهام أتباعه أنهم من الأراذل بادي الرأي أي أصحاب الآراء السطحية الغير متأنية والغير معتد بها بين الملأ، مع اتهامهم بالكذب والافتراء على الله " فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) "(هود)، ثم هذا المكر الموصوف بوصف لم تعرفه لغة العرب إلا قليل "كبارا" ، وهي لفظة يصحب نطقها انتفاخ في تجويف الفم للجمع بين الكاف المضمومة والباء المشددة بعدها، وهي توحي بالكبر الأجوف الذي لا أساس له من خارج النفس أو من داخلها، ثم يمعنون في الدعوة إلى الضلال لإبطال دعوة الحق حتى يكثروا من سواد أتباعهم ويزهقوا الروح المعنوية لنوح وأتباعه..

" قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)"(نوح)،وهذا هو المنطق الذي سار عليه أقرانهم من الأمم اللاحقة التي ورد ذكرها مع قوم صالح ولوط وشعيب ، وقوم إبراهيم وقوم فرعون، ثم كفار قريش .. هؤلاء الامتداد الجيني المشوه للفطرة المتبع للهوى الموالي للشيطان والصاد عن سبيل الله "وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)"(ص).

ثم بعد ردح من عناء الدعوة ، وعنت المدعوين ، يعتذر نبي الله نوح إلى ربه بأنه قد ألح في الدعوة واستخدم فيها كل وسيلة يمكن أن تقنع أمته أو تستميلهم، من الترغيب والترهيب والتذكير بنعم الله التي تغمرهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم لا يستطيعون لها نكرانا ولا تغيب عن أعينهم ، ثم يطلق دعوته فيهم ليلا ونهارا إسرارا وجهارا ، ويوعدهم كذلك بتنزل النعم والبركة والمدد عليهم من الأموال والبنين والجنات والأنهار والنعيم الوفير حتى نهاية الحياة فيلقوا أكثر من ذلك أضعافا مضاعفة عند ربهم في الآخرة ، ثم يستفز عقولهم للتأمل في إحكام الكون وإبداع الخلق وعظمته التي لا يمكن أن يعزوها ذو عقل إلا إلى خالق عظيم مدبر حكيم ..

"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)(نوح).

وهنا يتوقف عليه السلام بعدما أمضى جل عمره دون كلل أو ملل أو اعتذار أو نكوص عن أداء مهمة التكليف المضنية للنفس والبدن، حتى يدعو على القوم الكافرين الذين لم يكتفوا بالكفر في أنفسهم وإنما أصروا على إضلال غيرهم من العباد والوقوف للدعوة بالمرصاد حتى لا يتسع مددها ، او يعلو صوت داعيها أكثر من ذلك .. فيؤذن أمر الله بالإهلاك والإغراق والإبعاد"وقيل بعدا للقوم الظالمين"..

ما أشق أمر هذا التكليف الدعوي وما أتعب مهمته وما أتعب أصحابها وما أكد حياتهم ، هؤلاء الذين يتصدون على مر الزمان لأعتى عتاة الأرض جميعا ، الذين يعيثون في الأرض فسادا ، المغيرين لدين الله الصادين عن سبيله المعادين أولاءه والموالين لأعداءه ، ثم يأتي التكليف من الله لهؤلاء الدعاة أن ينبروا لهذه الفئة من الطغاة يدعوهم إلى دين الله "اذهب إلى فرعون إنه طغى"، "قال أنا أحيي وأميت " ، "فاستكبروا في الأرض وقالوا من أشد منا قوة "، "بل أنتم قوم مسرفون" ، " ولا تعثوا في الأرض مفسدين" ..

وقد كان من اصطفائية الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن وكل الله إليها مهمة الرسل من قبلها ، وهي البلاغ عن الله في كل بقاع الأرض ، ومنحها خيرية لم تسبق للأمم من قبلها " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)(آل عمران)، "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)"(العنكبوت)، "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)"(النحل)، وأن جعل علماءها كالأنبياء وفضلهم على سائر الخلق كفضل القمر على سائر الكواكب ، أو كفضل النبي على آحاد أمته ..

فهل قام علماء هذه الأمة بما أنيط بهم من عبء تنوء به الجبال ، وهل تصدوا بقوة الحجة والحق لبغاة الأرض لا يخشون في البلاغ عن ربهم لومة لائم ، أم أخذوا من العلم مغنمه مما يخلف عليهم من المنصب والمال والسلطة ثم تركوا مغرمه وهو الأولى الذي كان واجبهم أن يحملوه ، فالأمانة تقتضي التبليغ والصبر على الأذى مع امتلاك الحجة والإخلاص والاستعانة بالحق كما قال نوح عليه السلام "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)"(يونس) .. من هنا فقط يمكن أن يصلح حال الأمة المبلغة عن ربها ولو اجتمعت عليها طغاة الأرض جميعهم فإن الله من ورائهم محيط، فإن الله لا يسلم أولياؤه .

تعليق عبر الفيس بوك