عامر

 

محمد الحكماني

كان طفلا ينتمي لأولئك البسطاء، القاطنين في تلك الأكواخ الدقيقة جدا، وكأنها في الدجى والقناديل تتأرجح في قلبها بيوت زجاجية لدقة جدرانها كأنّ ظاهر جدرانها هو نفسه باطنها. وفي النهار يتخيل إليك أنها تلة من قش لكنهم كانوا سعداء، لا تجد بينهم أشقياء ليس لأنهم في المدينة الفاضلة؛ بل لأن الفقراء لا يملكون ما يخشون فقده، ولا يفكرون في زيادة أموالهم وأملاكهم، عكس الأغنياء فهم في دوامة الأرق ألا متناهي، والهوس الجامح في تكثير الكثير كما أظن.

كان طفلا وحيدا لأمه لا يعرف عن أبيه إلا اسمه، وكنيته، وأنّه كما يقول له أقرانه ذهب إلى بلاد الأغنياء.

كما يسمعون من أهلهم حيث، القصور المطلية، والمراكب الخيالية التي تحكيها أساطير العائدين من بلاد الأغنياء سواء مروا بها مرور الكرام أو ولجوها باستغراب لتجارة أو حاجة. وأنّ له إخوة غرباء لا يشبهونه ولا يعرفهم.

لم يشغل نفسه بأحاديثهم، ولم يقتحم الفضول نفسه عن أسباب أبيه لتركه، بل لم يحاول أن يفسر ما معنى إخوة لا يشبهوني.

فكل الأشياء حوله جميلة: حيث أمه والحنان، والجنان، والمدرسة، وطعم السكاكر الشهية التي تدخرها له أمه إلى حين عودته من المدرسة في كل يوم فقد كان يسابق الطريق كي يظفر بها مسابقا نفسه.

وكان في كل عطلة أسبوعية يتوسد أريكة المروج، ويسافر مع الطيور، ويعود مع نسمات الصّبا، يتدثر الغيم بعد يوم من الحرث والفلاحة الجماعية، ففي قريته كل شيء مشترك الطعام، والماء، وتفاصيل السعادة حتى الحزن يتشاطرونه بينهم وبين صاحبه حتى لا يبقى لصاحبه منه إلا خبره. فلا شيء يستدعي الوجع والبكاء على المفقود، فالموجود يكفي ويفيض والقناعة ثم الرضا تزهر في أرواحهم كما تزهر في الطرقات.

دار الفلك دورته، واصبح ذلك الطفل قاضيا، ثم كبيرهم قاضي القضاة، وأمّه ملكة مخدومة في قصرها وأضحت الأكواخ حدائق بابلية معلقة وطرقات القرية، متمدنة، وأنيقة، ووسيمة جدا وإن كساها اللون الأسود ثم أصبح واليا على قرية (الياسمين)، وذات يوم وهو مسترخ على كرسيه الهزاز يرتشف سندس الطبيعة بنكهة الشاي اطلع في صحف الوطن أنّ أباه أضحى وزيرا ابتسم لا بأس أن أشبهك في شيء جميل يا أبي البعيد، كل الأشياء بخير لا شيء يستحق الحزن سوف تجمعنا مدارج الحياة يوما حينها ستكون هناك أحاديث كثيرة، ولحظات صمت أكثر، وأظن أيضا فرح قادم.

تعليق عبر الفيس بوك