أسماء بدون اسم

 

أمل السابعي

أسماء، شابة فنانة في النحت، نحتت وجه والدتها التي كانت تدعم موهبتها بشكل سري قبل وفاتها؛ كان وجه والدتها المنحوت تسبقه وجوه كثيرة كوجه مُعلمتها المقربة ووجه أفضل صديقاتها ووجهها في سن الطفولة ووجه قطتها آنذاك، إضافة إلى غيرها من المنحوتات التي تتنوع بين الأشكال الهندسية والأدوات الاستهلاكية، وجميعها يشغل حيزا كبيرا من مخزن البيت والذي لم يعلم الأب عنه إلا بعد وفاة الأم الداعمة، وذلك حين تقدمت أسماء بإهداء والدها وجه أمها المنحوت علّه يكون مفتاحاً مناسباً لقفل الأعراف الاجتماعية التي تسيطر على تفكير والدها وتسيطر على أسماء التي تظهر بدون اسم في أعمالها المنحوتة في المخزن، أسماء بقيت صامتة ذابلة أمام ردة فعل والدها حين قام بتكسير جميع منحوتاتها ورمى الأدوات التي كانت تستخدمها في النحت ثم قفل المخزن بشكل أبدي، لم يبق أثر لموهبة أسماء سوى وجه أمها المنحوت الذي أبقاه والدها حيا رغم دفنه لموهبة من نحته.

في أحد الأيام وأثناء تسوق أسماء مع والدها في مجمع تجاري لمحت أسماء معرضا تشكيليا في أحد أركان المجمع، فتسللت إليه مستغلة انشغال والدها بأداء الصلاة في مصلى الرجال، استقبلها صاحب المعرض الفنان "قاسم" مرحباً بها للتجول في معرضه معتقداً أنها زائرة سطحية كونها وجه غير مألوف في عالم الفن وأنها ستمر مروراً سريعاً على مجسماته المنحوتة بدون أبسط تعليق منها كحال الكثير من الزوار، لكن قاسم شده جمود أسماء أمام منحوتته الأولى لفترة تتجاوز الخمس دقائق فاقترب منها ليوضح لها تفاصيل منحوتته معتقداً أنها عاجزة عن فهمها، لكن أسماء قاطعته بملاحظات تُعالج تفكيره الخاطئ في حقها وتجبره على الصمت احتراماً لما تقول، فأسماء لم تقل إلا ما يحتاجه مجسم قاسم الأول ليبدو بصورة أفضل، حينها أدرك قاسم أنه مبتدئ أمام أسماء وأنها زائرة غير عادية بل مُلاحظاتها تعكس أنها فنانة تجيد النحت على الطين والزجاج والكرتون والجرانيت وغيرها.

 كانت أسماء تُراقب ساعة الهاتف المحمول بتوتر فهي تحسب الوقت الذي لم يعد يسمح لها بالتجول أكثر في المعرض؛ فوالدها قد يراها في أية لحظة بمكان لا يُريد لها الاقتراب منه، استأذنت أسماء صاحب المعرض لتنصرف لكنه لم يكن قد نهل من فنها ما يروي ظمأه فدعاها بإلحاح أن تطلع على المعرض كله لإعجابه بآرائها، بيد أنَّها اعتذرت لارتباطها وعدم امتلاكها الوقت الكافي للمكوث، فودعها بتقديم بطاقة أعماله لها متمنيًا أن تتواصل معه، أخذت البطاقة مجاملة وهي تنوي أن ترميها في أقرب سلة مهملات خوفاً من والدها لكنها عدلت عن ذلك حين قال قاسم لها بعد استلامها للبطاقة "أنت فنانة مغمورة يا أسماء"، فأعادت إليه البطاقة قائلة "لقد أصبت الجرح لذلك أنا أعيد لك بطاقتك بدلاً من أن يجبرني أبي على تجاهلها كما تجاهلت موهبتي احترامًا لأعرافه الاجتماعية".

خرجت أسماء من المعرض ثكلى لفراق فن تعشقه، ولم تكن تعلم أنَّ قاسم ترك معرضه الخاص وتبعها جسد بلا روح، فالروح بيد أسماء منذ أول ملاحظة منها له إلى آخر معلومة شخصية عنها.

التقت أسماء بوالدها وأكملا التسوق معًا، في حين كان قاسم يلعب دور المتسوق المتتبع لأثرهما في نفس الوقت، وأثناء وضع والد أسماء للأغراض في السيارة لاحظت أسماء التي تجلس داخل السيارة اقتراب قاسم من والدها وإلقاء التحية عليه، ثم تبادلا حوارا سريعا لم تعرف تفاصيله بسبب زجاج السيارة العازل فحاولت قراءة ملامح وجه والدها عند دخوله للسيارة متخوفة أن يكون قاسم قد حاوره بشأن موهبتها لكن خوفها تلاشى فقد كان والدها مبتسمًا ولا أثر للغضب في ملامحه.

في مساء نفس اليوم، تقدم قاسم لخطبة أسماء التي لم تتخيل يومًا ارتباطها بفنان مثلها والتقائها بموهبتها من جديد، فبعد أن كانت فنانة مغمورة مع والدها ستكون فنانة مشهورة مع قاسم، هكذا كان حلم أسماء بسيطاً حين وافقت على خطبة قاسم.

أصبحت مجسمات قاسم المنحوتة بحلة جديدة في معرضه الجديد ولم يكن الفنانون والزوار يعلمون أنَّ السر هو زوجته أسماء، فقد كانت تنحت معه المجسمات بمزيج من الحب والشغف فيخرج النحت الفني من يدها كمولود ملائكي يبهج الزوار ملامحه، نجح معرض قاسم واشترى الزوار جميع مجسماته المنحوتة وحظي بعقد عمل مع جهة رسمية تعتمد على فنه في النحت، كل ذلك بسبب أسماء.

بعد مضي فترة من التقدم الفني لقاسم، فاتحت أسماء قاسم بموضوع رغبتها في فتح معرضها الخاص والبدء بتعريف موهبتها للفنانين وتحقيق حلمها بالشهرة في هذا المجال بعيدا عن القيود الاجتماعية التي فرضها والدها سابقاً عليها، لكن قاسم أجابها "فنُّك حصري لي".

تعليق عبر الفيس بوك