صلح الحديبية

 

سالم الخروصي

قرأت ما سطرته الأقلام من نقد لسياسة السلطنة الأخيرة وخاصة حول القضية الفلسطينية التي أثارت مشاعر شريحة من الكتاب والصحفيين وكان لها أثر واضح على نفسية هذه الشريحة وكأنّ عمان غيرت جلدها وتنكرت على بني جلدتها وخانت قضيتها الكبرى ومع أنني لا باع لي في السياسة إلا أنني أجزم أنّ مبادئ السلطنة في العهد الراشد كانت وستظل ثابتة حول قضايانا المحلية والإقليمية بل والقضايا العالمية ففي أحلك الأيام كانت السلطنة هي بصيص النور الذي ينظر من خلاله العالم العربي إلى قضاياهم المصيرية في وقت ادلهمت فيه الخطوب واختلطت فيه الأوراق وما عاد يعرف الأخ من البعيد والصديق من العدو وتطاول حينها العرب على سياسة السلطنة التي آثرت أن تمسك بطرف الخيط بتؤودة حتى لا ينقطع وبعد ذلك كله أثبتت تلك السياسة صدقها وصواب نظرتها البعيدة فتغنت الشعوب العربية بحكمة السلطان والأمثلة على ذلك لا تحصى.

واليوم تطفو على السطح القضية الفلسطينية ونهج السياسة العمانية حولها ويأتي النقد من داخل السلطنة لا من خارجها على ما اعتدنا لأنّها قضية شائكة لحد بعيد ولأنّ الشعب العماني كغيره من الشعوب العربية اعتاد الحكم على هذه القضيّة بقلبه وليس بعقله فهي قضية دينية وعقائدية لحد بعيد ولأنّ أمدها طال منذ 48 وإلى اليوم وهذا سبب يدعو إلى غض الطرف عن مواجهة النقد لسياستنا الحكيمة وهذا هو سبب سكوت أرباب السياسة العمانية عن لوم أحد أو اتخاذ أي إجراء على مستوى محيطنا المحلي وهي الحكمة عينها التي ألفناها من حكومتنا الرشيدة.

 أيّها الإخوة كتاباً ومثقفين تعالوا نستعرض دواعي النظرة العمانية حول القضية:

أولا: التفاف العرب حول هذه القضية ما عاد كسابقه مع علمنا بأنّ من هؤلاء من يتعاطف مع الطرف الآخر فيما سبق من تحت الطاولة واليوم يعلنونها على الملأ وبدون تحفظ مساندتهم لطرف ضد الآخر وشواهده كما علمتم.

ثانيا: تعدت النظرة إلى هذه القضيّة من مجرد رأي إلى تكتلات اشترك فيها بعض أبناء جلدتنا مع أحد طرفي الصراع في خندق والبعض الآخر ضدهم في خندق آخر وانقطع بذلك القاسم المشترك بين العرب أنفسهم بل وتأجج الصراع بمبدأ (إمّا معنا أو ضدنا) وهذا المبدأ يعرض مصالح الدول العربية والإسلامية إلى الخطر الاقتصادي العالمي الذي يسير من خلال القطب الواحد.

ثالثا: استعداء بعض الدول العربية لبعضها الآخر من خلال تحوطها بشبكات وتلقيها معونات ومساندات أمنية ولوجستية وعملها على إيجاد الشرخ والتصدع في جدار الجامعة العربية وهذا الأخطر على أمن الشعوب العربية وتداعيات هذه الخطوة وأثرها على مستقبل حياة الدول العربية المسالمة.

رابعا: القضية الفلسطينية ذاتها لم تتعد خطوة واحدة في سبيل إيجاد حل لها منذ بدئها في 48 وحتى الساعة بالرغم من الاتفاقيات والمؤتمرات والمعاهدات ويعود ذلك إلى أسباب من وجهة نظري الأولى: نظرة الاستعداء التي تعدت القول إلى الفعل بين طرفي الصراع والآخر: خوف إسرائيل على أمنها الذي ما زال هاجسا بل وعقيدة لدى الشعب اليهودي مع طموحها إلى الوطن الكبير الذي يحلم به اليهود والذي يتردد ذكره بين الفينة والأخرى مما يستدعي ذلك كله خرق المألوف في تناول هذه القضية ولذلك ظهرت فكرة الدولتين (القدس الغربية والشرقية) كحل لهذه القضية المستعصية.

خامسا: التحولات الأخيرة في السياسة الأمريكية والميلان بزاوية 180 درجة لصالح إسرائيل من خلال نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالجولان ضمن كيان دولة إسرائيل وما سيأتي بعد من اعترافات وتنازلات إلى الحد غير المتخيل أصلا في العرف السياسي فضلا عن الاستتباع القانوني الدولي إلى غير ذلك.

سادسا: أثر السياسة الأمريكية بل والغربية إن صح التعبير على المستقبل الأمني والاقتصادي العالمي في ظل انقسام المجتمعات العربية وسقوط بعض حكوماتها والتحكم في سوق النفط ومحاولة استعداء إيران -حسب ما يظهر-  وأخيرا وليس آخرا محاولة تغيير أنظمة أمريكا اللاتينية مما يدلل وبصدق أنّ من يتحكم في المصير العالمي غيرنا ولذلك وجب الأخذ بمبدأ             (إذا لم يكن أكلنا من فأسنا فلن يكون تدبيرنا من رأسنا).

ومع هذه المعطيات والقضية الفلسطينية في غرفة العناية المركزة تكاد تحتضر والأطباء مشغولون بقضاياهم الاقتصادية وبربيعهم العربي ولا يكاد يلتفت إليها إلا قلة منهم لتأتي النداءات والاستغاثة من أهلها بحثا عن طبيب حاذق يتمتع بنفس مطمئنة وبحس عربي وإسلامي لينعش تلك القضية ويعيد الحياة إلى أعضائها لتقوم بسلام من نكباتها المتلاحقة وتعود إلى جسد الأمة.

لقد أدركت عمان أنّ أولى خطواتها بناء الثقة بين الفرقاء وتذكيرهم بأنّ الجميع خاسر إن لم يصلوا إلى أرضية مشتركة لتنطلق من خلالها حلحلة هذه القضية على أساس الدولتين والعاصمتين الشرقية والغربية فلا إسرائيل استطاعت أن تعيش بأمان منذ 48 وإلى اليوم ولا الفلسطينيين استطاعوا إقامة الدولة الحقيقية على أرض 67 بالرغم من محاولاتهم المتعددة باستثناء شكلياتها الحالية وبين هؤلاء وأولئك تبقى القضية الفلسطينية في رمقها الأخير فهل يستطيع هذا الطبيب أن يحقق بناء الثقة وإيجاد الأرضية المشتركة والوصول إلى وعي قبل تأجج الصراع إلى ما لا يحمد عقباه وتأثير ذلك على المنطقة العربية والعالم وهل العالم مستعد لتقبل هذه المبادرة بين مثبط وغير مكترث ومتلهف سؤال ننتظر جوابه مما ستسفر عنه هذه الدبلوماسية التي خرجت عن صمتها لتثير الرأي العام الناظر بقلبه والمجتمع الدولي المتابع بعقله.

إنني أؤمن أنّ السياسة العمانية تعيد إلى أذهاننا صلح الحديبية الذي نظر إليه الصحابة بقلبهم فقبلوه على مضض ونظر إليه النبي – صلى الله عليه وسلم- بعقله الحصيف أنّه طريق النصر ولقد كان.

 فلا ننظر إلى سياستنا من زاوية القلب بل نحاول أن نرسم لها خطا عقليا ولكن لابد من الوثوق قبل كل شيء بمبدأ الثبات الذي تسير عليه السلطنة فهو الميزان الذي نكيل من خلاله الأوزان ونتعرف من خلاله على مقادير الواقع ومآلاته.

وأخيرا يقول الله تعالى: "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء".

تعليق عبر الفيس بوك