د. صالح الفهدي
كتبتُ ذات مرَّةٍ عبارةً مختزلةً تقول "الأزمات تكشفُ الأخطاء"، إنَّما الكشفُ لا يجبُ أن يقفَ عند حدود التحديدِ وحسب، بل إن الإرادات الجادَّة تجعلُ من الكشف منصَّة للانطلاق نحو التوجيهِ، والتصويب. وإذا كان "التشخيصُ نصفُ العلاجِ" كما يُقال، فإنَّ الكشف عن الأخطاءِ هو أيضاً نصفُ العلاج للمشكلات القائمة على مختلف الصُّعُد التي ترتبطُ بمكونات الدولة.
إنَّ أيَّة حكومة هي أشبهُ بالشركة في تمدِّدها وانكماشها خلال فترات الازدهار، أو الركود الاقتصاديين، بيدَ أنَّ الفرق يكمنُ في مقياس السرعة لدى المكوِّنينِ تجاوباً مع الركود خاصَّةً، إذ أنَّ الشركات هي أسرعُ في اتخاذ القرارات لأن مصيرها الوجودي على المحك، أمَّا الحكومة فتحركها مرهونٌ بعوامل اجتماعيةٍ، واقتصادية وسياسية لهذا فإن تحرُّكها سيكون بطيئاً إذا ما قيس بالشركات.
وإذا كانت الحكومات تتخذُ قرارات (قد) يكون لها منطلقاتها المقنعة، أو تبدو هكذا في مرحلةٍ من مراحل البناءِ والتنمية خاصَّة في مرحلة الازدهار الاقتصادي، والعائد الريعي الوفير، فإنَّ تغيُّر المراحل يوجبُ الوقوف عند تلك القرارات التي تُنشأُ على إِثرها مؤسسات ووحدات تستلزمُ الدعم المالي –وإن تناقص عبر السنوات- بينما لا تقوم في المقابل بما يُسهم في الحراك التنموي، وإنَّما تشكِّلُ عبئاً ثقيلاً على موازنةِ الدولة. وليس هذا وحسب، بل وأنها رغم عدم فاعليتها تستهلكُ موازنات أجدى أن توجَّه إلى مؤسسات أُخرى ذات فاعلية تنموية، أو تستثمر في برامجَ أجدر نفعاً، وأثرى فائدة منها كالتنمية البشرية.
إن الوقفات الحاذقة يمكنها أن تعيد النظر في بعض المؤسسات ذات الاشتغالات المختلفة، فيسهل تحديدها، كما يسهل تقليص عملها، وإلحاقها بمؤسسات أُخرى، وهذا ما يحدثُ في مراحل مختلفة. هذا فضلاً على أن الحكومات الذكية هي التي تسود اليوم أنظمتها المتقدمة، الأمر الذي يعني أن المفاهيم التقليدية للحكومات القائمة على أُساس وجود الصروح العظيمة التي تتناسلُ منها صروحٌ أخرى أصبحت تمثِّل ثقلاً مالياً على الدولة، إذ حلَّت التقنية محلَّ الوجود الماديِّ، ويَسَّرت الأتمتة عمليات الخدمات وغيرها.
ولا شكَّ أنَّ السفينةَ إن أبطأت في سيرها بسبب ثقلِ حمولتها، تخلَّصت من بعضِ تلك الحمولة حتى تضمن سيراً أسرعَ، متجنبةً مخاطر الغرق، وهو الأمرُ ذاتهُ للطائرة التي يُثقلها الوقود قبل الهبوطِ فتتخلَّص منه قبل لحظةِ هبوطها. الأمرُ الذي يعني أنه لا يمكنُ لدولةٍ ما أن تمضي وهي مثقلةٌ بالأعباءِ سواءً كانت ماديةً أو بشرية، أمَّا المادية فهي المؤسسات غير الفاعلة التي يمكن الاستغناءُ عنها نظراً لأنها تستهلكُ نصيباً من موازنتها، في حين إن الأعباء البشرية هي العقليات غير الكفوءة التي تتبوأ مراكز القيادة فيها.
على أنَّ الأمر لا يقفُ عند حدود التقليصِ وحسب، بل ويستمرُّ في إنعاش المؤسسات المتبقية وانتشال انظمتها من حالةِ الركود المادي والبشري بتحديث أنظمة العمل كليَّةً، وهذا يتطلبُ إرادة سياسية فاعلة، وقيادات تمتلك الكفاءة اللازمة قبل كل متطلباتٍ أُخرى.
لقد استعرتُ فيما تقدَّم مفهوم إعادة الهيكلةReengineeringللشركات مصوِّراً الحكومات في ذات الوضعية، وهو مفهومٌ عرِّفه الباحثان مايكل هامر وجيمس شامبي في كتابهما "إعادة هيكلة الشركات" بأنه "إعادة النظر بصورة أساسية وإعادة تصميم راديكالي للمؤسسات أو الإجراءات الأساسية في المؤسسة، تعود بالفائدة عليها من ناحية التكلفة الجودة ومستوى الخدمات بالإضافة إلى الوقت".
بيد أن ذلك لا يمكنُ أن يكون إلاَّ بعد "غربلة عامَّة بل وجذرية" للمؤسسات التابعة للحكومة، بين خصخصةٍ، أو إدماجٍ، أو إلغاءٍ، أو تقليل، الأمر الذي يُسهم في تقليص الجهاز الحكومي بما فيه من وزارات ومؤسسات ووحدات حكومية وفق خطة زمنية معيَّنة، تتوافق مع الخطط المستقبلية التي تضعها الحكومات وهو ما يطلق عليه البعض "ترشيق الجهاز الحكومي" اشتقاقاً من مفهوم الرشاقة.
إن التزام الصمت إزاء التَّرهل في الجهاز الحكومي، وعدم فاعلية بعض المؤسسات فيه، وقِدم الأنظمة التي تعملُ بها الكثير من الوحدات هو أمرٌ ليس لصالحِ أيَّةِ حكومةٍ تنشدُ التطور والتقدم بروحٍ عصريَّةٍ. إنَّما لا خيار عن هذا التحرك الذي ينشد التخلُّص من الثقل الذي كبَّل الحكومات عن السيرِ قُدُماً، والتحرُّك بخفَّةٍ ورشاقة نحو تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى، دون إهدارٍ في المواردِ لغيرِ فائدة، أو تبديدٍ للثروات دون طائل.