هل نعيش في الزمان الصعب؟

 

عبد الله العليان

الأحاديث والنقاشات وحتى التحليلات السياسية والفكرية، تطرح الصعوبات التي تعيشها البشرية، في هذا الزمان، بالرغم من أنَّ التحولات والتغيّرات الحضارية الفكرية والمادية في عالم اليوم، إلى جانب التقدم الكبير الذي غيّر الكثير من المصاعب، من حيث تمَّ القضاء على بؤر التخّلف التي كانت تعيشه الكثير من الأمم والحضارات التي عاشتها في أزمنة ماضية، هل العيش الصعب بسبب الصراعات والتوترات بين الدول والتكتلات السياسية والفكرية؟

هل لم نزل نعيش على عقلية القرون القديمة، من حيث الاحتياجيات والسيطرة واستخدام العنف عند الاختلاف من الدول القوية على الدول الضعيفة؟ هل يعني هذا أن البشرية لم تتغير في الفكر والثقافة، على الرغم من ارتفاع مستوى التعليم والتقدم العلمي والفكري في هذا الزمن؟ في كتابه (العيش في الزمان الصعب)، يطرح د. عبد الكريم بكار قضية مهمة في ما يدور في عصرنا الراهن، من أزمات وحروب وصراعات، ازدادت رغم  التقارب مع ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة، وظهور ما سمّي بوسائل التواصل الاجتماعي و" الإنترنت" وغيرها من الوسائل التي قربّت بين الدول والشعوب، وهذا يعني أن الأمر كما يرى د. بكار، أن العالم اختلف عمَّا كان عليه  منذ عدة قرون، وأن " فكرة وجود عالم أول وثان وثالث التي هيمنت مدة طويلة من الزمن، لم تعد موجودة الآن، فعلى الأرض اليوم عالم واحد فقط"، ولا يعني هذا بواحدية العالم أننا نعيش عصراً واحداً في النظم السياسية ومستويات العيش، حيث إن هناك تفاوتاً كبيراً في واقع الأمر.. وإنما نعني أن هناك أفكاراً وقيماً وأساليب وآمالا وطموحات تهيمن على معظم شعوب الأرض، ونفوذها آخذ في الاتساع يوماً بعد يوم".

 وعن موضوع، قيم ومفاهيم وأوضاع سائدة، يرى المؤلف المفكر د. بكار، أنَّ فهم العصر وإدراك تحولاته وخياراته السياسية والفكرية مسألة مهمة، لمعرفة حدود ما ينبغي التعامل معه، وفهم  نظرته، حتى يمكن دفع الكثير من الأفكار التي ينظر إليها لنا، والتي لا تحقق لنا النظرة الثاقبة تجاه الآخر المختلف، وألا تكون النظرة أحادية لرؤية الآخرين، وتعميم النظرة لهم سواء دول أو أفراد، فهناك تعدد وتنوع، لابد من أخذها، "فسلّم القيم والأولويات  ليس ذا ترتيب واحد، ومركّباتهم العقلية والمبادئ الثقافية والمعرفية التي ينظرون من خلالها إلى الأشياء، ليست هي الأخرى موحّدة، هذا التفاوت بين عناصر البنية التي ندرك من خلالها الواقع، يؤدي في الحقيقة إلى تشابك ألوف الخيوط  المعطيات والاعتبارات التي تستدعي في النهاية ما لا يحصى من الأفهام والرؤى وزوايا  النظر والمواقف والاستجابة". وعن البعد العقلي والبعد النفسي لهذا الزمن، يرى د.عبد الكريم بكار، أن قضية الاهتمام بتنمية العقل وتطويره، وتشكل وعيه مهمة أساسية، وضرورة صقل العقل، صحيح، واختيار الرؤى الإيجابية، فهو الذي يساعد العقل في اختيار الرؤى الإيجابية، فالعقول قد تكون محكومة بالبيئة المحيطة، وبالثقافة المتوارثة، لكن العقل يحتاج إلى دافعية فكرية، وهذا ما يحصده العقل الذي يصبح بالتالي الموجه للفكر بعد استكمال مقومات الوعي والفهم والإدراك و"القرآن الكريم يركز على هذا المضمون الفكري المكتسب شيئاً قابلا للتصحيح والتنمية، كما أنه قابل للكثير من الضلال والانحراف، وما ذلك إلا لأنه يعكس الظروف الاجتماعية والتاريخية للثقافة الذي تغذيه، وتمده بالمفاهيم المكونة لوجوده، والتي تحرك الوعي وتوجهه في نهاية الأمر القرآن الكريم لا يستخدم لفظ العقل أو الفقه أو الفكر، وإنما يستخدم صيغة الفعل (يعقلون)، (يتفكرون)، ليشير إلى المحصول النهائي الذي يشكل العقل ومضامينه، والذي يتجلى في سلوك المرء، ويحدد مواقفه، كما ينظم ردود أفعاله".

وعن البعد النفسي في هذا العصر يطرح د. بكار مسألة مهمة، في قضية تشكّل السلوك والعلاقات  في النفس الإنسانية، ولذلك فإنَّ متطلبات النوازل مهمة للتحرك في هذه الحياة بعيداً عن التحديات والمنغصات، وللتخلص النفس من أمراضها، ومن هنا يرى د. بكار أن يتحقق "تمايز الإنسان عن الشجر والحيوان وقدرته على الخروج عن الخطوط الغريزية التي تضمن سلامته، وتكيفه مع بيئته، يوجب عليه أن يقوِّي داخله حتى يستطيع ضبط نزواته، كما أنَّ عليه أن يُدعِّم جهازه النقدي الداخلي؛ حتى يتمتع بالقدرة على التمييز بين الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة، وحتى يرشِّد اختياراته بين تلك الأشياء،  ويكون قادراً على تحمل مسؤولية تلك الاختيارات. التحديات التي تواجه الأمم كالتحديات التي تواجه الأفراد هي غالباً داخلية، والأفراد العظماء كالأمم العظيمة حين يشتد عليهم الهجوم من الخارج، لا ينهمكون في أنشطة خارجية لصده ، وإنما يرتدٌّون إلى الداخل تنمية وتحصيناً وتنظيماً وتطهيراً".

 

وعن البعد الخلقي والبعد البدني وإدارة شؤون العيش يرى د. بكار أن الذات الإنسانية ليست على استقامة واحدة بين كل الأجناس، فهناك تفاوت بينهما، لحكمة إلهية، وهذه تتعلق بالروح التي منحها الخالق لمخلوقاته، وتنطلق مع القيم الخلقية وتزكية النفس من خلالها، "والحقيقة أن الجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام، تنبع على نحو أساسي من طابع الاستقامة والنبل والتضحية والصفاء والتضامن الأهلي الذي كان يطبع الحياة العامة، وليس من التفوق في الحروب أو العلوم أو العمران. قد آن لنا أن ندرك أنه لن يكون بإمكان أفضل النظم الاجتماعية، ولا في إمكان أقصى العقوبات الصارمة أن تقوِّم الاعوجاج، ولا أن تملأ الفراغ الناشئ من ذيول الروح وانحطاط القيم، فالعقوبات لا تنشئ مجتمعاً، لكنها تحميه. والنظم مهما كانت محكّمه ومتقَنة لن تحول دون تجاوز الإنسان لها، وتأويلها على نحو يفرغها من جلِّ مضامينها؛ وكل الحضارات المندثرة، تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها شاهدةً على نفسها بالعجز والعقم". ولذلك من المهم أن تكون النظرة للحياة نظرة متفائلة، متطلعة إلى التعايش الرحب في ظل التغيرات التي تعيشها البشرية في هذا الزمان، وهذا لا يتحقق إلا من خلال النظرة الواعية لكل الأفكار والرؤى لتحقيق ماهو أفضل للإنسانية.. وللحديث بقية.