جمال الكندي
صدرت مؤخراً ثلاثة مواقف عمانية، أحدها أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية، ومواقع التواصل الاجتماعي، هذه المواقف لها أبعادها السياسية والإنسانية والعسكرية، وتبلور الرؤية العمانية في كيفية تعامل سلطنة عمان مع قضايا المنطقة وعلى رأسها قضية فلسطين.
المواقف العمانية الثلاثة هي : تصريح وزير الشؤون الخارجية "يوسف بن علوي " في منتدى الاقتصاد العالمي الذي أقيم على ضفاف البحر الميت في الأردن بخصوص إسرائيل، هذا التصريح أثار ردود أفعال داخلية وخارجية اتّسمت بعضها بالعاطفية، الموجودة فينا عند أي نقاش يتعلق بفلسطين، وهذا أمر طبيعي كون القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين، وأي عبارات تحمل تفسيراً يوحي أنّ المحتل الإسرائيلي حمل وديع نتفهم مخاوفه، ولو كانت هذه العبارات من باب متطلبات الدبلوماسية الدولية فهي تستفز الشارع العربي، وليس لها مرجع في قاموس التعامل العربي الإسرائيلي.
بن علوي كان يخاطب العقل السياسي العربي في المنطقة، والسياسة لها ألفاظها التي تفسر حسب المكان والزمان، ونحن لا نستهين بالكلمات التي قالها بن علوي، فقد أراد بها إيصال معلومة أمنية معينة يتذرع بها الإسرائيليون في أي أتفاق مع العرب وهي "مخاوفهم الأمنية"، وقالها بن علوي "تبديد مخاوف إسرائيل، هذه الكلمات راعت إسرائيل وحلفاءها ولم تراعي مشاعر العرب والمسلمين، ولكي لا تفسر هذه الكلمات في غير سياقاتها السياسية المتبعة في الصراع العربي الإسرائيلي، لابد لنا من مرتكز تاريخي وسياسي نتفق عليه، يكون مرجعاً لنا حينما نتحدث عن فلسطين الحبيبة.
المرتكز التاريخي والسياسي في القضية الفلسطينية الذي تتبناه سلطنة عمان هو: دولة فلسطينية مستقلة بحدود 1967 م عاصمتها القدس الشرقية، وأي تفاهمات تلغي هذا القرار هي مرفوضة.
على هذا الأساس توجد مفاوضات مع الكيان الصهيوني لانتزاع هذا الأمر سياسياً، وطبعاً يوجد في الداخل الفلسطيني وفي الخارج من يتبنى الخيار العسكري، وإرجاع كل الأراضي الفلسطينية بما فيها أراضي 48 إلى الفلسطينيين، وهنا نحن أمام المطلب السياسي والمطلب الشعبي، وكلام بن علوي كان يخاطب الجانب السياسي الدولي المعترف بإسرائيل، والذي يهتم بمخاوفها ممن يريدون أن ينهوا وجودها في المنطقة، فكلمات بن علوي جاءت تتناغم مع من يتبنون أمن إسرائيل، وهذا سبب ردود الأفعال الغاضبة في الشارع العربي وحتى العماني.
ابن علوي عميد الدبلوماسية الخليجية والعربية ولا أحد يزايد عليه وتصريحاته تتسم بالعقلانية والواقعية السياسية، وهي لا تخرج عن دائرة السياسة العمانية تجاه فلسطين، وقد أسيء فهمها ولم يجد بن علوي الوقت الكافي لتفسيرها، في المقابل لا نخطئ من كتب بعاطفة حب فلسطين، والأقصى الشريف، وانتقد كلمات بن علوي التي أقل ما نقول عنها بأنها لم تراع الدبلوماسية المزدوجة، وأعني بها أنّها راعت أصدقاء الكيان الصهيوني من الأمريكان والأوربيين، ولم تراعِ أصحاب الأرض والعرب والمسلمين، وهذه هي لعبة السياسة تسترضي من بيده القوة ونأسف على ذلك.
الموقف الثاني جاء ليصحح الموقف الأول وهي كلمة رئيس مجلس الشورى العماني الشيخ "خالد المعولي" بالجمعية العامة للاتحاد البرلماني الدولي التي كانت تصب في خانة حقوق الشعب الفلسطيني، وعدم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري، كلمات "المعولي" كانت شديدة اللهجة وتعكس ما يدور في العقل الجمعي والوجداني للشارع العماني تجاه القضية الفلسطينية حيث قال: "لا سلام نرجوه مع إسرائيل وهنالك أرض محتلة"، وقال كذلك: "إنّ الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والتعديات الممنهجة على الأقصى الشريف لا يمكن قبولها والسكوت عنها فإذا أردنا السلام فلابد أن نساعد الفلسطينيين في إيجاد دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس" انتهي كلامه الذي نقلته بتصرف .
نرى هنا الفرق بين كلام ابن علوي وكلام المعولي، فالفرق واضح مع وجود التوجه السياسي العماني الواحد المتفق عليه وهو دولة فلسطينية مستقلة بحدود 67 وعاصمتها القدس الشريف.
الموقف الثالث والأخير: إنساني وعسكري تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بتقديم مساعدات إغاثية لها بسبب السيول التي اجتاحتها مؤخراً، فكانت عمان أول دولة عربية ترسل هذه المساعدات، بصرف النظر عن وجود حصار اقتصادي على إيران، فالمسألة الإنسانية مقدمة على أي اعتبارات أخرى صنعتها السياسة الأمريكية في المنطقة.
الموقف العماني الثاني تجاه إيران هو قرار التمرين المشترك بينها وبين إيران تحت مسمى "البحث والإنقاذ في بحر عمان"، هذا التمرين يأتي في فترة شيطنة إيران من قبل الغرب اقتصاديا وعسكرياً، بوضع قطاع عسكري مهم وحساس وهو الحرس الجمهوري الذي من ضمنه البحرية التابعة للحرس الجمهوري المدرج على قوائم المنظمات الإرهابية، والتمرين في هذه الفترة له معانيه السياسية والعسكرية يقرأها من يعلم ماذا تعني السيادة الوطنية في اتخاذ قرارات ذات شأن عسكري! فخلال هذا التمرين زار وفد عسكري إيراني رفيع المستوى مسقط وكان التوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون العسكري بحسب ما ذكرت وكالة فارس الإيرانية.
هذا الموقف العماني الأخير تجاه إيران يقرأ في السياسة بأنّ سلطنة عمان متوازنة في علاقاتها الخارجية، ولا أحد يملي عليها أجندات معينة تجاه الآخر بسبب الأيديولوجيات المختلفة التي تسير السياسات الخارجية لبعض دول المنطقة، وأنّ الجانب الإنساني مقدم وذو أولوية خاصة لدى رأس الهرم السياسي في عمان لذلك نرى طرفي النزاع في اليمن مرحبا بهما في عمان من سياسيين وجرحى.
الموقف الأول والثاني يبرز سياسة عمان تجاه فلسطين، وهي ثابتة والكلمات التي قد تكون صدرت من شخصية سياسية معينة لا تقاس إلا بالموقف العام لهذه الدولة، وهي القاعدة التي تنطلق منها عمان عند الحديث عن القضية الفلسطينية، وأي اتفاق بأي مسمى كان لا يتوافق مع القاعدة العامة وهي أرض فلسطينية بحدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية مرفوض، فلا مزايدات على الموقف العماني.
الموقف الأخير يبيّن مدى استقلالية عمان في التعامل مع دول المنطقة، وهذا ما يزعج بعض الدول التي تحاول تغيير سياسة عمان تجاه إيران واليمن وغيرها بطرق أصبحت مكشوفة لدى الشارع العماني، ومصدراً للفكاهة السياسية، فالتاريخ لا يتغير ولكن الجغرافيا السياسية هي التي قد تتغير!!