مسارات تكرس المناطقية

 

د. عبد الله باحجاج

نعيش - ولله الحمد والشكر- في حياض وطن واحد، مُتوشح برداء السلم الداخلي والسلام الخارجي، يُحارب كل بواعث الفرقة والشتات، ولن يقبل من فرد أو جماعة أن يفرض آراءه بالقوة على الآخرين، أو يزرع بذور الفتنة والشقاق على ترابه، أو يستفرد الفرد أو الجماعة بتشكل أحادي للذهنية الاجتماعية، وطن يجمع الجميع على التعايش المشترك، وعلى العيش الواحد، باختيارات العقلانية ورهانات الوعي الاجتماعي.

هذا وطني، وقد ترسخ ككيان واحد ومُتحد في ولاءاته وانتماءاته، على يدي مؤسس نهضتنا المعاصرة، حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- منذ عام 1970، كلبنة واحدة يقوم على نسق واحد يتماهى فيه الكل من أبناء الوطن من مسندم إلى أقصى ضربة علي، تذوب فيه الجُغرافيا بكل امتداداتها وتوسعاتها وأعماقها واتجاهاتها، لتشكل وحدة جغرافية وطنية مُتضامنة في الروح والشكل.

ماذا يعني هذا؟ يعني أنَّه يقع على من شرفوا بالتخطيط للتنمية في بلادنا، أن يعملوا على تسهيل التواصل الجغرافي والانصهار بين مكونات المجتمعات المحلية، حتى لا تطغى المناطقية وتنافس الوطنية، فكلما انغلقت كل محافظة على ذاتها، كلما انعكس ذلك على سيكولوجية مكونها الاجتماعي، والعكس صحيح، والصحيح أن يشعر كل مواطن بسهولة التنقل والانتقال من حيث الإمكانية المالية ومن حيث البنية التحتية.

من هنا يمكن القول صراحة، بأن هناك مسارات تجعل المواطن يتقوقع داخل محافظته، وتستصعب عليه التنقل داخل اتجاهات الجغرافيا الأربع، ورؤيتنا أنَّ مرحلتنا المقبلة، ستشهد تراجعاً في التقوقع إذا لم نتدارك سريعًا هذه المسارات، وهنا نتساءل عن مستقبل إمكانية تنقل المواطنين بين مُحافظتي مسقط وظفار، ومن ثمَّ بقية المحافظات في ظل ارتفاع سعر تذكرة خط مسقط صلالة، وفي ظل المخاطر التي تكتنف المواطنين إذا ما اختاروا طريق البر، وإذا ما استمر الوضع كما هو في ظل تآكل المقدرة المالية الاجتماعية بسبب الضرائب والرسوم، وارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، ولنا في البيع القسري لسيارات المواطنين الذين عجزوا عن دفع المُخالفات المرورية نموذجًا، وفي الوقت نفسه رؤية استشرافية للمآلات المقبلة.

ومنذ فترة من الزمن، ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بمطالب مراجعة أسعار خط مسقط صلالة، ولا آذان صاغية، كما رصدنا يوم الأربعاء الماضي في المطار استياءات جديدة من سحب امتيازات وخدمات جديدة للمسافرين على الخط الداخلي، أحدثها سحب امتيازات السندباد "الذهبية والفضية" خاصة دخول قاعات الانتظار لماذا؟ ربما لأنَّ الطيران العماني ضامن زبائنه على الخط الداخلي، فليس لدى المواطن خيار آخر سوى الانصياع لشروط احتكار الطيران العُماني مع طيران السلام لهذا الخط، لذلك يمارسان عليه مجموعة فنون سعرية ربحية تصاعدية دون حسيب أو رقيب، فلو كان هناك حسيب أو رقيب مثلاً، لما سمح لشركة طيران السلام باستخدام طائرة أجنبية على خطنا الداخلي بكامل هويتها، لن تعرف أنك تسافر على طيران السلام إلا من خلال التذكرة فقط، أما شكل الطائرة وكل ما بداخلها من أطقم وكراسي وكتيبات دعائية، كلها تعكس هوية شركة أجنبية "فلاي وان" حتى كتيب إرشادات السلامة، باللغتين، الإنجليزية ولغة الشركة الأم، أين السيادة العمانية على هذه الطائرة الأجنبية؟ وهل القانون في بلادنا يسمح بذلك؟

المرحلة الراهنة، تحتم مُراجعة الكثير من التشريعات والقوانين لكي تواكب التحديات المصاحبة للتطورات الاقتصادية والمالية الجديدة في بلادنا، حتى تضمن مجموع المصالح، القديمة والجديدة، الاقتصادية والاجتماعية، مع تفعيل الأدوات الرقابية المستقلة حتى نضمن التطبيق ونزاهته.

إنَّ هناك حاجة وطنية لتأسيس شركة طيران داخلية متخصصة لدواعي خفض تكلفة السعر الداخلي، فعوضًا عن ذلك، نجد التوجه للشركة الجديدة نحو المنافسة الخارجية أكثر من تسهيل السفر الداخلي، وهي الآن بصدد فتح خطوط خارجية، وهذا يعني أننا لا نزال في المربع الأول رغم الالتفافات السعرية المتمثلة في الحزم السعرية، والأدنى منها، محدودة جدًا، ولا يستفيد منها إلا القلة، والمربع الأول يكمن في أن بلادنا لا تزال تفتقد لطيران داخلي يعزز الانصهار والاندماج الديموغرافي والجغرافي.

وعندما يصعب على الكثير من المواطنين التفاعلية والحركة داخل وطنهم بسبب الفاتورة المالية المرتفعة أو بسبب مخاطر الطريق البري- الذي يسميه البعض "طريق الموت"- بينما يجد من السهل السفر إلى دول مجاورة، فمن اليقين أن المتأثر به سريعًا ستكون السيكولوجية الاجتماعية، مما يكرس المناطقية في ثقافة الجيل المقبل، لتقوقعه داخل محافظته، فمرتبات معظمهم في القطاع الخاص- والبالغ عددهم 120 ألفًا وفق إحصائية 2016- تتراوح ما بين 400- 600 ريال، علماً بأن هناك أكثر من 60 ألف عامل مرتباتهم تتراوح ما بين 325- 400 ريال فهل هذا الجيل سيحلم بالسفر إلى مسقط بأسعار قد تصل إلى أكثر من 100 ريال وحتى 60 إلى 70 ريالاً فوق طاقته المالية؟ وكيف بحال المتقاعدين أو حتى الطبقة الوسطى التي تحاصر مرتباتها الضرائب والرسوم؟ إذن.. خفض أسعار خطوطنا الداخلية أو حاجة البلاد العاجلة لطيران اقتصادي تكون أسعاره في متناول المقدرة المالية، حتمية وطنية لتعزيز بنية الدولة الواحدة المُتناغمة مع نسقها الاجتماعي القاطن جغرافيات معقدة وصعبة كظفار ومسندم والوسطى، ولن نتوقع أن تأتي الاستجابة من قبل المستفيدين من الوضع القائم، لذلك نستهدف السياسة، ونطالبها بالتدخل الفوري للاعتبارات الوطنية سالفة الذكر.