دروس أخلاقية من هجوم نيوزلندا الإرهابي

 

أ.د. حسني نصر

مثَّل الهجومُ الإرهابيُّ الدَّامي الذي طال مسجدين بنيوزلندا قبل أسابيع، وما نتج عنه من استشهاد خمسين مصليا، اختبارا حقيقيا لأخلاقيات النشر الإعلامي في الأحداث الإرهابية؛ إذ كَان على المؤسسات الإعلامية الكبيرة في العالم اتِّخاذ قرارات أخلاقية صَعبة تُوازِن من خلالها بين رغبتها في نشر كل ما يتصل بهذا الحدث إعمالا لحق الجمهور في المعرفة، وبين ترسيخ معايير أخلاقية يجب أن تحكم عملية النشر في مثل هذه الأحداث، حتى لا تتحوَّل وسائل الإعلام إلى أداة من أدوات الدعاية للإرهابي نفسه وعمله المشين وفلسفته ومعتقداته.

واقع الأمر أنَّ وسائل الإعلام ذات الطابع العالمي واجهتْ تحديات عديدة، وهي تتعامل مع الهجوم الإرهابي في نيوزلندا الذي كان نموذجا واضحا علي استخدام القاتل الإرهابي لشبكة الإنترنت كجزء من إستراتيجيته في الهجوم، وسلاح من الأسلحة المدمرة التي استخدمها لتحقيق رغبته في قتل المسلمين أثناء صلاة الجمعة. ورغم أن وسائل الإعلام تعاملت قبل الهجوم علي مسجدي مدينة كريستشرش بنيوزلندا مع مئات من حوادث إطلاق النار التي قام فيها إرهابي أو مختل عقليا بإطلاق النار بشكل عشوائي علي الآمنين، فإن هجوم نيوزلندا ربما يكون الهجوم الإرهابي الأول الذي قرَّر فيه الإرهابي أن يستخدم الإنترنت كسلاح رئيس في الجريمة الإرهابية، وكان يطمع بالطبع في أن يؤدى هذا النشر الحي لعمله في جذب مزيد من اهتمام الإعلام العالمي لشخصه وقضيته، إن كانت له قضية، وهو ما أضفي أبعادا أخلاقية مهمة وربما جديدة علي طرق معالجة الحادث في وسائل الإعلام العالمية، تتعلق أكثر ما تتعلق بحِرمان المجرم من تحقيق أهدافه الدعائية كاملة وتقديم معالجة لا تصب في صالح تمجيد القاتل، ولا تجعل من وسائل الإعلام سلاحا من أسلحته.

ولعلَّ أول التحديات الأخلاقية التي واجهتها وسائل الإعلام؛ هو: قيام الإرهابي باستخدام كاميرا مثبتة علي جبهته تقوم بالبث الحى علي شبكة فيسبوك لعملية إطلاقه النار علي عشرات المصلين في المسجدين، إضافة إلى استخدام شبكة تويتر للإعلان المسبق عن خططه، إضافة إلى نشر رسالة إلكترونية مكونة من 74 صفحة على مواقع بعض المجموعات الإخبارية العنصرية. وقد تحقق الهدف الذي وضعه الإرهابي من استخدام الإنترنت؛ حيث تمَّ اكتشاف الهجوم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وظل الفيديو الخاص بالهجوم متاحا عليها بشكل واسع إلى أن تنبهت إدارات هذه الشبكات وقامت بحذفه بعد أن كان ملايين المستخدمين قد شاهدوه وتبادلوه وقام بعضهم بحفظه.

من المؤكد أن تطويع التكنولوجيا واستخدام منصات الشبكات الاجتماعية لتوثيق الهجمات الإرهابية، والدعاية لها، واستغلال ذلك في إلهام الآخرين للقيام بمثلها، قد وضع مسؤوليات أخلاقية ثقيلة على عاتق  وسائل الإعلام والإعلاميين الذين قاموا بتغطية الحادث، والذين كان عليهم البحث عن طريقة لمتابعة الهجوم وتقديم المعلومات والحقائق المتصلة به وبمرتكبه وضحاياه وتبعاته، دون أن يصبحوا لعبة في يد الإرهابي وأداة من أدواته. 

ومن هذا المنطلق، امتنعتْ وسائل إعلام عديدة في العالم عن نشر صور وفيديوهات الهجوم تماما بعدما قامت بتقييم القيمة الإخبارية للفيديو والصور، وأيقنت أن النشر يصب في صالح الإرهابي في المقام الأول ويحقق أهدافه. صحيح أنه في حالات سابقة نشرت هذه الوسائل فيديوهات وصور هجمات إرهابية، لكنها -أي الفيديوهات والصور- كان مصدرها شهودُ عِيان أو صحفيون أو رجالُ شرطة قاموا بتصوير الهجمات، وليس القاتل نفسه. والدرس الذي يمكن استخلاصه هنا يتمثل في ضرورة عدم منح وسائل الإعلام الإرهابيين ما يريدونه من شهرة ودعاية بإعادة بث الفيديوهات ونشر صور اعتداءاتهم أو حتى نشر صورهم الشخصية، وهو إجراءٌ أخلاقيٌّ يُمكن أن يُبطل المفعول الدعائي المقصود من هذه الأعمال، ويجرد أصحابها من الشهرة والإعجاب الذي يعتقدون أنهم سوف يحصلون عليهما لدى البعض نتيجة أعمالهم الإرهابية. ولعل هذا هو الفارق بين صحافة شبكات التواصل الاجتماعي التي من السهل استغلالها في نشر فيديوهات وبيانات وصور الإرهابيين بسبب بنيتها التكنولوجية من جانب، وغياب الضوابط الأخلاقية فيها إلى حد كبير من جانب آخر، وبين الصحافة التقليدية التي من الصعب تطويعها لخدمة أهداف الإرهابيين.

وقد ارتبط بعدم نشر فيديوهات وصور الهجوم عدم نشر اسم الإرهابي وصورته، وقد بدأت بذلك وسائل الإعلام النيوزلندية التي توقفت بعد الأخبار الأولي عن ذكر اسمه وأخفت وجهه من الصور، وتبعتها في ذلك غالبية وسائل الإعلام العالمية. والمؤكد أن هذا الفعل الإعلامي حمل رسالة واضحة لكل الإرهابيين تفيد بأنهم لن يتمتعوا برؤية أسمائهم وصورهم في وسائل الإعلام. ولعل هذا ما أشارت له رئيسة وزراء نيوزلندا أكثر من مرة عندما طالبت الإعلاميين بالتركيز علي صور الضحايا الأبرياء والحديث عنهم، وعدم نشر صور الإرهابي أو الحديث عنه. والمعروف أن نشر صور المجرمين -خاصة في حوادث إطلاق النار العشوائي وجرائم الكراهية- يمنحهم الشهرة، وقد يغري غيرهم للقيام بهجمات مماثلة. ورغم أن بعض وسائل الإعلام العالمية قدمت حق الجمهور في معرفة اسم الإرهابي وفضلت نشر الاسم، فإنها في الوقت نفسه تجنبت تكرار الاسم بشكل غير مُبرَّر، وتجنبت إبرازه في العناوين الرئيسية، مثلما تجنبت نشر صورته في الصفحات الأولي.

من المهم ونحن نُدين هذا الهجوم الإرهابي أن نتذكر دائما الواجبات الأخلاقية لوسائل الإعلام، وأن نؤكد على المعايير التي يجب أن تستند إليها التغطية الإعلامية لهذه الأحداث، وهي معايير يمكن أن طبقت بشكل عالمي أن تنزع إلى حد ما فتيل هذه الأعمال غير الإنسانية. صحيح أن هجوم كريستشيرش لن يكون الأخير في سلسلة الهجمات الإرهابية، ولكن الأمل يبقى قائما في إحداث خفض واضح في الهجمات الإرهابية في العالم؛ إذا تمَّ بالفعل حرمان الإرهابيين من الوقود الإعلامي الذي يبحثون عنه.

تعليق عبر الفيس بوك