حاتم الطائي
◄ "البريكست" أبرز تجليات الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الشعبوية في بريطانيا
◄ سيناريو مرعب ينتظر الاقتصاد البريطاني بعد "الطلاق الأوروبي"
يشهد العالم منذ سنوات عدة حالة من عدم اليقين والغموض في فهم حقيقة المواقف، والتي نتجت عن التحولات الكبرى والتَّخبط غير المنطقي في السياسات المالية والاقتصادية والسياسية، وأثرت بصورة عميقة على المنظومة التي تحكم العالم من حولنا.. وأحد تجليات هذا التخبط العالمي هو قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي أو ما يُعرف بـ"البريكست"، وهو القرار المُستند إلى مفاهيم شعبوية تستهدف في الأساس إشعال جذوة النزعة القومية لدى الشعوب بصورة متطرفة تفضي إلى عودة الأفكار العنصرية اليمينية، وتستفيد من عدم إدراك الدهماء لحقيقة ومنطقية القرارات السياسية أو الاقتصادية التي تتخذها الحكومات.
ولقد مثل "البريكست" أبرز تجليات الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها الشعبوية في بريطانيا، وإعلان "الطلاق البائن" مع أكبر تكتل سياسي وتجاري اقتصادي في القرن الحادي والعشرين. وخلال الأيام القليلة الماضية، بات الخناق يضيق شيئًا فشيئاً حول عُنق الحكومة البريطانية، التي فشلت رئيستها تيريزا ماي في إقناع ليس فقط حزب العمال المعارض داخل مجلس العموم البريطاني، بل أيضًا حزبها المُنتمية إليه؛ حزب المحافظين، في التصويت لصالح خطتها لضمان "خروج سلس" من الاتحاد.
إنَّ أدق وصف يُمكن إطلاقه على الحالة البريطانية الآن هو "الانتحار".. بالفعل هو انتحار بجميع المقاييس، كيف لدولة هي ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا وخامس أكبر اقتصاد في العالم أن تُقرر التنازل عن هذا التَّصنيف في معركة سياسية داخلية قوامها الشعبوية المَقيتة في عصر العولمة والانفتاح على الآخر والعالم المُتصل بشبكة واحدة؟ ما الذي يدفع الدولة البريطانية لأن تضع رقبتها تحت السيف الأمريكي القابضة عليه يدٌ ترامبية غليظة؟ ليس صحيحاً أنَّ أزمة اللاجئين في أوروبا أو التفوق الألماني اقتصادياً من أسباب مُوافقة الناخبين البريطانيين على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد عقود من البقاء في هذا الاتحاد، بل إنِّ التغير في المزاج السياسي العام ببريطانيا وتنامي النزعة القومية في مُواجهة العولمة، وأيضاً الانكفاء على الذات مُقابل الانفتاح على الآخر، من الأسباب الجوهرية الرئيسية التي قادت إلى ذلك.
فالفوضى البرلمانية الحاصلة في بريطانيا منذ أشهر، بسبب عدم مُوافقة البرلمان البريطاني على خطة الخروج، وغياب التوافق بين أكبر حزبين هناك على صيغة مُرضية لجميع الأطراف، كل ذلك يُهدد النظام الديمقراطي، ويُضعف البنية الاقتصادية القائمة التي تُرسل أكثر من 40% من صادراتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، ما يضع هذا الاقتصاد القوي على حافة الهاوية نحو مُنحدر سحيق لا يعلم مداه أحد.
تابعتُ الكثير من المُحللين الذين كتبوا عن خروج بريطانيا، وقرأت العديد من المقالات منذ اندلاع هذه الأزمة، ولم أجد أيًا منهم لم يُبدِ دهشته من هذا الموقف البريطاني غير المفهوم، لماذا تُقرر الأغلبية من أمة ما أن تُسيئ استخدام الديمقراطية وأن تقوض هذه الوسيلة الإنسانية المُتحضرة؟ ونفس هذه الديمقراطية الآن هي التي تفشل في إبرام اتفاق بين الفرقاء المُختلفين على آلية الخروج وتكلفتها، والتي تصل إلى قيام بريطانيا بدفع ما يزيد عن 40 مليار يورو للأوروبيين، فضلاً عن الخسائر الباهظة التي ستتعرض لها المملكة المُتحدة من هكذا إجراء، نتيجة لعدم قُدرتها على تسويق صادرات مُنتجاتها إلى الأسواق الأوروبية، وفي حال نجحت في توقيع اتفاقيات تبادل تجاري مع بعض هذه الدول- وهذا أمر قد يطول وقت إنجازه- فإنِّها ستُواجه عراقيل جمركية ترفع من سعر المُنتج بما يضر بحجم الصادرات ويُقلص رغبة هذه الأسواق- أو على الأقل قُدرتها- على شراء مُنتجات بريطانية.
الخسائر الاقتصادية التي ستضرب بريطانيا جراء الخروج من أوروبا لا أستطيع أن أحصيها في هذا المقال، لكني سأذكر بعضًا منها؛ في المقام الأول سيتباطأ النمو الاقتصادي لمُستويات دُنيا ربما تصل به إلى الانكماش ومن ثمَّ التراجع المُستمر، ودليل ذلك أنَّ حكومة بريطانيا نفسها خفضت توقعاتها للنمو المتوقع في 2019 إلى 1.2% بدلاً من توقعات صدرت في الربع الأخير من العام الماضي بتحقيق 1.6% نموا، ويُصاحب ذلك تراجع في الاستثمارات وهبوط في قيمة العملة بمعدلات كبيرة وتصنيف ائتماني سلبي، ما دفع بعض المُراقبين للتحذير من أنَّ بريطانيا ستفقد ترتيبها كخامس أقوى اقتصاد في العالم لتكون في المركز السابع. أيضاً مليارات الجنيهات الإسترلينية ستلوذ بالفرار من بريطانيا وتتجه إلى اقتصادات أكثر أماناً، ونزوح أموال طائلة أيضًا خارج النظام المالي البريطاني، حيث أفادت تقارير أنَّ نحو تريليون دولار أمريكي خرجت من القطاع المالي البريطاني، وهو أهم قطاع مالي في العالم، فبريطانيا وهي أهم لاعب في المنظومة المالية العالمية، وأقوى الأنظمة المالية في العالم خرجت من حي المال الشهير في لندن. وماذا بعد؟ آلاف الوظائف سيخسرها البريطانيون أنفسهم مع هجرة الشركات وإغلاق الكثير منها، وعشرات الآلاف من الأوروبيين العاملين في بريطانيا سيجدون أنفسهم في مأزق صعب، والعكس أيضاً فالآلاف من الموظفين البريطانيين العاملين في أوروبا سيواجهون مصاعب غير مسبوقة فيما يتعلق بالإقامة وتحويل الأموال، إلى جانب تضرر وانهيار قطاعات إنتاجية رائدة مثل قطاعي السيارات والطيران.
الأشد ضراوة مما سبق، حجم الخسائر التي تتكبدها بريطانيا منذ بدء إجراءات الخروج، ويكشف بنك جولدمان ساكس حجم هذه الخسائر التي تصل إلى 600 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً، أي أنَّ بريطانيا تخسر كل شهر مليارين و400 مليون إسترليني، وسنوياً 28.8 مليار إسترليني، إنِّه السيناريو المُرعب الذي ينتظر بريطانيا!!
ومن الناحية السياسية، فقد تسبب قرار الخروج من بريطانيا في انقسام عنيف في المُجتمع البريطاني، وما آلت إليه الأمور الآن من فشل البرلمان البريطاني في التوصل إلى اتفاق مرضٍ للخروج، قد دفع ناخبين إلى عض أصابع الندم على تصويتهم لصالح الخروج، وبدأت ترتفع أصوات- حتى من داخل النُخبة السياسية- بالاستفتاء مرة أخرى على قرار "البريكست"، لكن من المُؤكد أنّ إجراء مثل ذلك سيكون بمثابة وأد للنظام الانتخابي في بريطانيا، والقضاء على أي مصداقية تصويتية في المُستقبل، وربما يُنذر ذلك بانهيار النظام الديمقراطي برمته. الحكومة البريطانية الحالية التي يُسيطر عليها حزب المُحافظين بدعم من الحزب الوحدوي الآيرلندي، عرضة للسقوط، سواء من خلال الإطاحة بتيريزا ماي أو المُبادرة باستقالتها هي، أيهما أقرب.
أؤمن تمامًا بأنَّ البريطانيين ينفذون حرفيًا- دون إدراك لذلك- ما يُريده الرئيس الأمريكي الشعبوي دونالد ترامب، هو يُريد دولاً أوروبية منفردة وضعيفة، ومُنقسمة على نفسها، لا تكتلا قويا يجمع أكبر اقتصادات العالم، ويمكنهم من الاتفاق على أي قرار يدعم مصالحهم في وجه أي تحرك للولايات المتحدة - التي لا تزال القوى العظمى في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. أمريكا ترامب ترغب في تعزيز النظام أحادي القطب، القائم على رغبات ساكن البيت الأبيض في واشنطن، فما من سبيل إلى ذلك سوى إضعاف الاتحاد الأوروبي. ومن المدهش أيضًا أن يكون البريطانيون بخطتهم التي تفضي إلى خروجهم من أوروبا، يدعمون وجهة نظر الدب الروسي، رغم أنَّه يمثل لهم خطرا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا كبيرا، لكنهم بـ"البريكست" سيُعززون موقف روسيا التي لا تُريد أي تكتل اقتصادي في القارة الأوروبية، بما يُعزز من قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
إننا فيما يبدو على وشك رؤية نظام عالمي جديد يتشكَّل، نظام يستلهم الشعبوية والنزعة القومية المتطرفة والتفوق العرقي لشعوب على أخرى، والتي دمرت أوروبا في القرن العشرين بعدما أشعلت حربًا عالمية دمرت دولاً بالكامل وقتلت الملايين من البشر. لا أُفضل الطرح المُتشائم في مقالاتي، لكن آمل أن يتحلى البريطانيون والأوروبيون بالرشد الكافي كي يُقلصوا من حجم الخسائر المُترتبة على هذا الطلاق المحتوم!