التوزان الواقع والكامن

 

 

فاطمة الحارثي

 

يتجلى لنا في العصر الحالي تحديات التكيف بين مختلف فئات الناس سواء كان ذلك في بيئة العمل أو البيئة الاجتماعية. ولقد ضع الدارسون الكثير من الأسباب وتباين تلك الأسباب أمر بديهي لاختلاف الثقافات والمحاور التي بنى فيها الدارس نظرياته.

وهذه التغيرات التي طرأت على مجتمعاتنا خلقت مشكلات تجارية واقتصادية واجتماعية وتربوية ومهنية، كما إن طفرة التكنولوجيا الحديثة من أنظمة ومكائن وآلات معقدة العمل والفهم زادت من تلك المشكلات تعقيدا وعمّق مشكلة التكيف لدى الناس. فالتحول من الحياة الزراعية البسيطة إلى الحياة الصناعية فجأة لم يقابله زمن كافيا للتحضير والاستعداد المناسب لتكيف والفهم الصحيح لمجريات وتبعيات النمو المستطرد وما بعد التغير.

لابد أن تستمر الحياة، فالمرء مازال عليه أن يقوم بدور المربي والعائل والموظف والمسؤول وبكل تأكيد عليه فهم كل التكنولوجيا المستحدثة في بيته وبيئته، ومواجهة هوس الاختراعات وتطبيق تلك الأشياء دون البحث عن تأثيرها على المدى البعيد أو على حيز أكبر من مجال التجريب لمواكبة متطلبات العصر والتطور، إضافة إلى سد فجوة التكيف الذي يُطلق عليها في وقتنا الحالي "الذكاء العاطفي".

وسط هذا نادى البعض بأهمية وجود الاستشارات النفسية والطب النفسي لمساعدة الناس على التكيف والتحكم في مجريات الحياة، وكما أسلفت فإن عدم وجود تحضير مسبق للمجتمع عن ماهية التغير أو المطلوب منه (الأمر المستحدث)، فقد لاقى هذا النداء أو الطلب القبول عند القليل جدا والرفض عند الغالب، نظرا لارتباط مفهوم الطب النفسي والاستشارات النفسية بالجنون والاضطراب العقلي في المعتقد القديم.

لا يستطيع أحد أن ينكر علينا عواطفنا أو يجبرنا على حب شيء ومقت آخر، وإن اتسع الوقت لنا وحاورنا ذواتنا سنجد أن خيار الحب والتفاعل ليس حتى من خياراتنا أو بحكم أيدينا، نحن لا نستطيع خلق تفاعلا عاطفيا وإن حاولنا، نحن فقط نستطيع التحكم بسلوكنا وأقوالنا للتعبير والتقليل من تبعات التكيف والقبول أو الرفض لما يحصل من حولنا، وهذا ما يوجد التوازن الداخلي والقدرة على المضي في مسؤولياتنا اليومية.

إن إهمال المتغيرات أو تأجيل التعامل النفسي لها لوقت آخر يجبر الدماغ على نقلها وتخزينها في اللاوعي (منطقة الأنا العليا أو اللهو أحيانا). وتختلف قدرات الفرد من حيث سعة التخزين ومدده، وبدون علاج أو التعامل معه بالطرق المختلفة- كل حسب طبيعته- قد يتحول إلى كبت عنيف (انفجار) يفقد المرء سيطرته على نفسه وزمام أموره دون وعي منه. فتكثر الهفوات في السلوك والأعمال والأقوال، وهذا خطر كامن يؤثر سلبا على الإنتاجية والاستقرار سواء الاجتماعي أو العملي.

هوس التحكم في المجريات لن يتحقق ما لم يكن هناك مقابل في التوازن الداخلي للفرد.

ومؤخرا وفي حوار مع بعض الأصدقاء في موضوع أهمية التوازن النفسي، أفضى البعض بأنه في صراع دائم يؤرقه ويفقده الاستطاعة في فهم ما يرغب في فعله أو عمله؛ أي أصبح لا يعلم ماذا يحب أو ماذا عليه أن يختار؟! لا لوم عليه وإن كان صغير السن أو كبيرا، فهذه أمور تحدث مع الجميع دون استثناء.. إذن ما السبيل الأسرع والأمثل للتغلب على هذه المشكلات؟

إن الذات الإنسانية لها قدرات عجيبة وحتى عصرنا الحالي لم نبلغ تمام علومها وفهمها، وإن حاولنا؛ تبقى تفاجئنا!!

إذن.. كيف نوجد التوازن ونمارس حياتنا في سلاسة قدر المستطاع؟ لا أعرف، رغم إنني درست علم النفس، لكن الإصرار لا ينقصني، ولن أستطيع أن أفهم الأخر إن لم أفهم ذاتي أولا، فقمت بتجريب بعض الأمور وسألت أخرين فكانت الإجابات كثيرة؛ منها من قال لي "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، فبحثت عن تفسير "الذكر". ثم بحثت عن النصيحة فقال البعض النسيان وعدم التشبث بالأمور أو التعلق بها عاطفيا، وعند التجريب وجدته من الأخطاء التي تخلق التراكم والكبت، ثم تحكم اللاوعي وظهور الاضطراب السلوكي.

بعد ذلك تأملت من حولي فِعل الأخرين لأجد الوهم والأقنعة لدى الغالب منهم، وعند السؤال قالوا لي "امشِ مع التيار أو كوني مع حزب فلان أو الفريق المسيطر وتسلي بالفسح والرحلات والتسوق"، لم اقتنع ولا أراه يجدي نفعا و.. و..و.. والعالم مليئ بالنصيحة من غير أهلها.

بقيت أعواما طوال أبحث إلى أن سألت الشخص المناسب وهو "أنا"، نعم.. ذاتي هي من تستطيع فقط أن تخلق التوازن الذي أبحث عنه لا العلوم المختلفة ولا النصح من أهل النقص. وجدت كنوزا وأسرارا حيرت الكثيرين من حولي، فلقد أعطتني قدرات الصمود والمتابعة والأهم من ذلك قدرة الراحة والمصالحة مع ذاتي.

رسالة:

عزيزي القارئ: تبقى ذاتك الأقرب إليك وفهمها هدف أساسي للبقاء وحل المشكلات والتحديات والنجاح.. إنها إكسير الحياة وأهم من رغباتك وشهواتك وأهدافك.. إنها مفتاح السعادة والقدرة على رؤية الجمال من حولك والنوم قرير العين.

تعليق عبر الفيس بوك